(وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) [المنافقون : ١] تصحيحا لظاهر القول. وقال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) إبطالا لما قصدوا فيه. وقال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٦٧] الآية ، وسبب نزولها ما خرجه الترمذيّ وصححه عن ابن عباس ، قال : مر يهوديّ بالنبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : حدثنا يا يهودي! فقال : كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه (وأشار الراوي بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام) فأنزل الله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
وفي رواية أخرى : جاء يهودي إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد! إن الله يمسك السموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والخلائق على إصبع ، ثم يقول : أنا الملك! فضحك النبي صلىاللهعليهوسلم حتى بدت نواجذه. قال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ). وفي رواية فضحك النبي صلىاللهعليهوسلم تعجبا وتصديقا. والحديث الأول كأنه مفسر لهذا ، وبمعناه يتبين معنى قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) فإن الآية بينت أن كلام اليهوديّ حق في الجملة ، وذلك قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية وذلك ـ والله أعلم ـ لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه ، وذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه ، فقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ). وقال تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) [التوبة : ٦١] أي يسمع الحق والباطل ، فرد الله عليهم فيما هو باطل وأحق الحق ، فقال : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) [التوبة : ٦١] الآية ، ولما قصدوا الأذيّة بذلك الكلام قال تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [التوبة : ٦١]. وقال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : ٤٧] فهذا منهم امتناع عن الإنفاق بحجة ، قصدهم فيها الاستهزاء ، فرد عليهم بقوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يس : ٤٧] لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر. وجواب «أنفقوا» أن يقال : «نعم أو لا» وهو الامتثال أو العصيان. فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض ، انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا. إذ حاصلهم أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة ، لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق ، فكأنهم قالوا : كيف يشاء الطلب منا ، ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم ، وهذا عين الضلال في نفس الحجة. وقال تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) [الأنبياء : ٧٨] إلى قوله : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً