عمار جانب التقديس بعد استخلاصه من شوائب التلبيس ، وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة واولياء أمر الأمة يعرّفهم مواقع الصواب ويبصّرهم مواضع الارتياب ويحذرهم مزالق الاضطراب ويرشدهم إلى دقائق السياسة ويهديهم طرق الكياسة ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة ويصعدهم شرف التدبير ويشرف بهم على حسن المصير ، ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجه ، جمع مُتفَرَّقَهُ وسماه بهذا الاسم ـ نهج البلاغة ـ لا أعلم أسماً أليق بالدلالة على معناه منه. وليس في سعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلّ عليه اسمه ولا أن آتي بشيء في بيان مرتبته فوق ما آتي به صاحب الاختیار کما ستراه في مقدمة الكتاب ، ولولا أن غرائز الجبلة وقواضي الذمة تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه وشكر المحسن على إحسانه لما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج البلاغة من فنون الفصاحة وما خص به من وجوه البلاغة ، خصوصاً وهو لم يترك غرضاً من أغراض الكلام إلا أصابه ولم يدع للفكر ممراً إلا جابه (١)).
أقول : فكم يعود الأسف بليغاً إذا نبذنا مثل هذا الكتاب وَراءَنا ظِهْرِياً وحرمنا النَّشْأ من فنون بيانه وتركناه صفر الكف من شذور عِقْيانِه ، عكس ما لو تثقف بدراسته دراسة تفقه واستحضار وَتَدَبُّر واستظهار فندخر بهذا
__________________
(١) جابَهُ جرى فيه وقطعه. وممّن وَصَفَ نهج البلاغة من غير الشيعة أيضاً العلّامة السيد محمود شكري الألوسي البغدادي (ت ١٣٤٢هـ) في كتابه (بلوغ الأرب) (٣ / ١٨٠) إذْ قال : «هذا كتاب نهج البلاغة قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ما هو قبس من نور الكلام الإلهي ، وشمس تضيء بفصاحة المنطق النبوي».