النفس الكلية ، وهي باطن الوجود الظاهري وشاشته ، أي هي كناية عن عبادة الوجود الظاهري وحده كما يفعل الطبيعيون والماديون ، وجواب المسيح : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) يعني أن المسيح ، وهو ممثل العين ، لا يستطيع أن يقول إلا ما يوحى به الروح إليه ، لأن الروح حقيقته ، فكيف يقول ما لا يلهم ويوحى إليه؟ قال ابن عربي : هو المتكلم المكلم والكلام ، فمنه وإليه ، فمن أنت ، وأين أنت؟
وقوله : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) يعني حضور الحق في الوجدان والشعور ، فيكون هو الموحي والملهم ، ولا ينطق اللسان إلا بالوحي والإلهام كما قال سبحانه في موضع آخر : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشّورى : ٥١] ، ولهذا قالت الصوفية : إن الله هو الناطق على ألسنة الخلق ، وما يعي هذا إلا العالمون.
وقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) يعني رد العارية الجزئية إلى أصلها الكلي ، فاللسان الناطق يرد إلى الوحي الناطق بغير صوت ، والنتيجة أن الباطن يعلم الظاهر ، إذ ليس الظاهر إلا وسيلة وأداة ، والظاهر لا يعلم هذا الباطن ، لأن الباطن باطن كل شيء ، فهو الكل ، فكيف يحيط الجزئى بالكلي وكيف تسع قطرة الماء البحر؟ ... ثم إن النفس الإلهية جامعة ، وما دامت جامعة فهي عالمة بكل شيء ، لا يعزب عنها مثقال ذرة في السماوات والأرض أما الذرة نفسها الكائنة في عالم المادة فكيف تعلم هذا الكلي؟
ولقد قال سبحانه في موضع آخر : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] ، فذات الله لا تعرف ، ولا تعرف إلا بظهورها أي بالخلق الظاهرين ، والنتيجة أن الله يعلم حقيقة المسيح ، أما المسيح نفسه ، وهو مظهر الروح المتعين ، فهو يجهل الذات الإلهية التي ظلت أبدا مجهولة كما وصفها سبحانه في موضع آخر قائلا : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] ، وقالوا : الروح حكمة الله وقدرته ، وقالوا : الروح ليس الله ، وليس شيئا غير الله.
١١٧ ، ١٢٠ ـ (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))
[المائدة : ١١٧ ، ١٢٠]