من مدخل إلى هذا المدخل سوى المجاهدة كما سبق أن بينا من قبل ، وقلنا إنه ما من معقول كلي إلا والجهاد مفتاحه ، والتضاد ساحته ، والإنسان فارسه ، والروح الحيواني حصانه ، والحواس عتاده.
فلئن لم تسم هذه السورة المائدة لكانت قد سميت سورة الجهاد أو المجاهدة فالإنسان ممثل الاسم يشق طريقة لفلق بذرة اسمه بالجهاد شاء ذلك أم أبى ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر مخاطبا السماوات والأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصّلت : ١١] ، فالكافر مجاهد بالضرورة ، لأنه الشطر الآخر من معادلة المؤمن ، وعلى هذا فليس في الوجود إلا عبيد ، ولهذا سمي الإنسان عبدا ، لأن الناس كلهم حملة أسماء فكون الإنسان حليما يعني أنه ممثل اسمه تعالى الحليم ، وهذا الحلم يقتضي من الحليم دوره ، فإن لم يجاهد الحليم الجاهل بالصبر عليه والحلم عن سفاهته فلن يكون حليما ، ولن يتفتح فيه برعم الحلم ، فيظل من ثم عاطلا عن العمل ، وبالتالي عاطلا عن الوجود.
ولما كانت الأسماء كلها لله ، فلقد كتب على الناس جميعا فتق الأسماء ، أي إخراجها من كونها بالقوة إلى كونها بالفعل ، ولما كان الفاعل الحق كل شيء قام الروح بهذا الفعل متخذا الإنسان بدوره آلة ووسيلة ، ولهذا كان الوجود العياني كله حصانا يمتطيه الفارس الإلهي ليحقق الوجود الإلهي قصده من الوجود وهو ظهوره وكمالاته ، وكمالاته صفاته ، وصفاته وجهه عزوجل.
ولهذا قيل ليس في الوجود إلا الله ، لأن النفس هنا ، ومنها النفس الإنسانية ، ليست إلا مرآة تعكس الصفات ، وتكون مستودع القوى والإمكانات ، ومحصلة الحياة أن يحيا الله حياته بالروح والنفس.
فمن وعى ما أنزل من طعام في المائدة السماوية كان من الموحدين وسمي حكيما إلهيا ، وإلا لبقي الإنسان في غفلة الجهل ، وسمي هذا الجهل جهالة وقيل في الغافلين إنهم موتى ، ووصفوا بأنهم صم بكم عمي لا يبصرون.
١١٦ ـ (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦))
[المائدة : ١١٦]
قوله سبحانه للمسيح : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) يعني اتخاذ المظهر إلها يعبد ، كما يتخذ الناس الأوثان ، آلهة تعبد ، فعبادة المظهر والتعلق به مثل عبادة الوثن ، والأم