وقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) تأكيد ما قلناه ، إذ قال سبحانه إن المشيئة التي أظهرت العدو مشيئته ، ولو لا هذه المشيئة ما كان العدو عدوا ، ومن هذه النظرة نفهم ما جاء في الحديث : «أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالا : يا رسول الله ، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه ، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق ، أو فيما يستقبلون به أتاهم به نبيهم وتثبت الحجة عليهم؟ فقال : لا ، بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم ، وتصديق ذلك في كتاب الله (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٧ ، ٨].
١١٣ ـ (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣))
[الأنعام : ١١٣]
إصغاء الأفئدة غير المؤمنة هو من باب سماع الأذن الخارجية لا الأذن الداخلية التي هي القلب ، فالأذن تسمع ولكن القلب ، أو على الأصح صفة القلب تسمع ما تسمعه فتقبله أو ترفضه ، ولهذا قال سبحانه في موضع آخر : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء : ٤٥] ، (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الأنعام : ٢٥].
١١٤ ـ (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤))
[الأنعام : ١١٤]
سبق أن تحدثنا عن موقف أهل الكتاب من النبي والقرآن المنزل ، وقلنا : إن منهم من آمن بالنبي وما أنزل إليه وذلك سبب صفة القلب التي تحدثنا عنها.
١١٥ ، ١١٧ ـ (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧))
[الأنعام : ١١٥ ، ١١٧]
الصدق إخراج الكلمة الإلهية الجامعة التي قال عنها الحق إنها قد تمت ، والتمام إخراج المقتضيات والمكنونات ومخزون هذه الكلمة الجامعة ، فالكلمة الجامعة هي العماء الذي كان فيه الرب قبل خلق السماوات والأرض ، فهاهنا الأمر مطوي وهو في انتظار النشور.
أما صفة العدل فلأن في الكلمة المعقولات المطوية كافة ، ولا شيء في الوجود الظاهر إلا وله أصل معقول ، ولهذا كان العدل إخراج الوجود من الطي إلى النشر ، أو كما يقال في الفلسفة من العدم إلى الوجود نفسه ، فالعدل أساس الملك كما قال أمير المؤمنين عمر ، بل العدل أساس الوجود ، فلا وجود بلا عدل ، ولا عدل بلا وجود ، فالعدل الأمر الجامع الباطن الظاهر.