مادام يحصل ماؤه من الأنهار الخمسة ، بخلاف ما إذا خرج ماؤه من قعره حيث يكون ماؤه أصفى وأجلى ، فكذا القلب إذا حصل له العلم من طريق الحواس الخمس الظاهرة لا يخلو عن كدورة وشك وشبهة بخلاف ما إذا ظهر من صميم القلب بطريق الفيض فإنه أصفى وأولى ، قال صلىاللهعليهوسلم : (سألني ربي فلم أستطع أن أجيبه ، فوضع يده بين كتفي بلا تكييف ولا تحديد ، فوجدت بردها ، فأورثني علم الأولين والاخرين ، وعلمني علوما شتى فعلم أخذ علي كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيري ، وعلم خيرني فيه ، وعلمني القرآن فكان جبريل يذكرني به ، وعلم أمرني بتبليغه إلى الخاص والعام) ، وقيل في جلال الدين الرومي : العجيب في تلك العبقرية أنها جعلت انتاجه العقلي بعد أن قارب الأربعين يختلف اختلافا كليا عن إنتاجه السابق على ذلك ، لقد كان واعظا ، وعد من الفقهاء الأحناف ، فأصبح صوفيا شاعرا وحكيما أخلاقيا وفيلسوفا إنسانيا.
٥٨ ـ (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))
[الأعراف : ٥٨]
البلد الطيب كناية عن القلب السليم الذي صلح لاستقبال الأنوار الإلهية ، وقوله : (يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) يعني الإشارة إلى سابقة الحسنى التي خص بها أشياخ الأزل هؤلاء ، فهم أنبياء وأولياء وهم في أصلاب آبائهم وبطون أمهاتهم.
وقوله : (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) يعني أن نتاج اللون الأبيض البياض ، ونتاج اللون الأسود السواد ، وهما لله جميعا خلقهما لإظهار الحق وظهوره به.
٥٩ ، ٦١ ـ (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١))
[الأعراف : ٥٩ ، ٦١]
نوح ممثل الاسم العليم الذي صدر عن الجمعية الأسمائية ليمارس إمكاناته المخزونة فيه ، فنوح مثل آدم ، وقوم نوح يمكن تأويلهم على أنهم الكثرة المتفرعة من الوحدة ، أو أنهم قوى الحواس باطنة وظاهرة بالإضافة إلى النفس في عروجها وتقلبها ، فخطاب نوح خطاب الضمير إلى النفس ، أو خطاب النبي إلى الناس.
ورد الملأ أي الأشراف بأنهم يروا نوحا في ضلالة هو موقف العامة من النبي عادة ، كما فعلت بنو إسرائيل بأنبيائهم ، أو إعراض النفس عن سماع صوت الضمير وبقاؤها في ضلالها وانغماسها في الشهوات.