اعتكف النبي عليهالسلام في غار حراء بالفطرة حتى نزل عليه الوحي وقال له : (اقْرَأْ) والغاية من الخلوة إنفتاح القلب على العالم الروحاني الجواني ، حيث تبدأ مرحلة النبوة أي التعليم الرباني.
والملاحظ أن معظم الأنبياء والأولياء كانوا رعاة وفقراء ، وللأمر لطيفة ، فحياة الرعاة هي شبه خلوة حيث يكون الراعي وحيدا بعيدا عن الناس منطلقا في البراري صامتا قليل الزاد من الطعام والشراب ، وهذا حال شبيه تماما بما تقتضيه الخلوة من ابتعاد عن الناس وتقليل الطعام والشراب والإنطواء على الذات للتأمل والتفكر. أما الفقر فهو خلو اليدين مما تقدمه الحياة الدنيا وعدم مد العينين إلى زينتها ، وهو حال يساعد على عدم انشغال القلب بالعالم الخارجي وهمومه ، والتوجه إلى الله الذي هو في القلب.
قال الإمام القشيري : إن من خير معايش الناس كلهم رجلا في غنيمة له في رأس شعفة من هذه الشعاف ، أو بطن واد من هذه الأودية ، يقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين. وقال أيضا : الانفراد لا يقوى عليه إلا الأقوياء وقال الدقاق في العزلة : ربما تكون بين الناس تلبس ما يلبسون ، وتأكل مما يأكلون ، ولكنك منفرد عنهم بالسر.
١٤٣ ـ (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣))
[الأعراف : ١٤٣]
تكليم الرب موسى بدء مرحلة المكاشفة التي هي ليلة القدر التي وصفها سبحانه بأنها خير من ألف شهر لأنه تتنزل فيها ملائكة المعقولات وروح الأمر على القلب المطهر.
والتكليم صوت جواني لا ينفك عن تكليم الإنسان منذ بدء تفتح وعيه أي تفتح عقله الهيولاني ، ولكن يبقى هذا الصوت حجابا مسدلا لحكمة حتى يأتي نصر الله والفتح ، ولهذا سمي هذا الصوت ضميرا ، أي مضمرا في الذات ، وهو القانون الأخلاقي الذي تحدث عنه الفيلسوف كانط وأسهب فهو عليم حكيم مرشد سواء السبيل ، وهو نور من نور يهدى الإنسان في ظلمات بر الجسم وبحر النفس ، ويكون له حارسا أمينا. وعند التكليم يرفع الحجاب فيأتي الصوت الذي يصدر عادة من جهة اليمين ، يأتي من جهة الشمال لتبدأ من ثم مرحلة التوحيد التي هي المكاشفة ، وسمتها الصوفية الضدين حيث لا يبقى يمين ولا شمال ، ولا يبقى إلا الواحد القهار ، وهذا الظهور الوجودي الكلي هو الذي سد أفق النبي صلىاللهعليهوسلم لما نزل عليه جبريل ، أما بالنسبة إلى موسى عليهالسلام فلقد تدكدك جبل وجوده كله لما تجلى ربه له ، والملاحظ