في الآية أن التجلي ارتبط بكلمة (رَبُّهُ ،) وكنا تحدثنا عن مرتبة الرب التي تلي مرتبة الأحدية ، وهي المرتبة التي تطلب الوحدة فيها الكثرة ، ويطلب الرب المربوب ، ليبدأ فعل الرحمة الرحمانية والرحمة الرحيمية ، التي تبدأ بها سور القرآن ، والتي افتتحت بها الفاتحة.
وقال عارف في الربوبية :
ولا معز بلا شخص يعززه |
|
ولا مذل بلا قوم أذلاء |
فالربوبية تقتضي التعلق ، وتعلقها يكون بقلب الإنسان وفي قلبه ، وما حديثنا عن الضمير والصوت الأخلاقي إلا ذكر لبعض تعلقات الربوبية بالمربوبية وذلك عن طريق الظهور اليميني فقط .. أما كمال التعلق فهو يشمل الظهور الشمالي أيضا ، لأن الله وصف نفسه بالواحد القهار ، وبأنه القاهر فوق عباده ، وبأنه ملهم النفس فجورها وتقواها. فكما أن اليمين لله فالشمال له أيضا ، وهذا هو جوهر سورة الأعراف ، وقد وصفنا الأعراف بأنه سور يعلوه الموحدون المكاشفون ، فيرون أصحاب الجنة أي أصحاب اليمين وأصحاب النار أي أصحاب الشمال.
والصوفية يحذرون من الوقوف عند مرتبة ما دون تجاوزها إلى ما فوقها ، ويرون أن الرضى بالإقامة في الجنة حجاب أيضا ، لأن الجنة جنات ولأنها مراتب ، وأعلاها جنة المعرفة والعلم ، وهي التي تلي جنة النعيم. قال البسطامي : لله عباد لو بدت لهم الجنة بزينتها لضجوا منها كما يضج أهل النار من النار. ولما سمعت رابعة قوله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) [يس : ٥٥] قالت : مساكين أهل الجنة ، هم في شغل فاكهون وأزواجهم. وقالت : إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن لأنك إله تستحق العبادة. وقال المرسي : خرج الزهاد والعباد من هذه الدنيا وقلوبهم مغلقة عن الله عزوجل.
١٤٤ ـ (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤))
[الأعراف : ١٤٤]
الخطاب موجه إلى الإنسان الكامل الذي له إطلاق وتعيّن ، فإطلاقه الروح الكلي أو الحقيقة المحمدية ، وتعينه تشخصه في الرسل والأنبياء بدءا من آدم ، والملاحظ أن هذا الروح يسمى المصطفى. وقوله : (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) يعني كون تعين هذا الروح جامعا لأسماء الله الحسنى والمتخلق بالأخلاق الإلهية ، والمؤهل أزلا لاحتلال مرتبة التكليم ثم المشاهدة الكلية.
والمصطفى هو الكلمة الأزلية التي لها العلم الجامع المرتق ، والتي تنتهي بالتعين إلى التفتق ، وهذا معنى قوله سبحانه في الآية : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) أي خذ علومي عني ، فلأجلك