أما الإسلام فموقفه مغاير ، ونجد طبول الجهاد تقرع في معظم صفحات القرآن ، وقضى الرسول نفسه عمره محاربا شديد المراس ، وكذلك فعلت الصحابة ، ثم أمراء المؤمنين ، فالإسلام دين الجهاد ، فما سبب الخلاف بين الدينين علما أن كليهما سماوي منزل من عند الله؟
في الحقيقة أن لدى الصوفية كشفين ذوقيين ، أولهما يدعى المكاشفة ، والثاني يدعى المشاهدة ، فالمكاشفة للصفات ، وفيه يكاشف المراد بأن الله في الضدين ، وأن له الأبيض والأسود ، وأنه لا يخرج على إرادته مخلوق حتى ولا عصيان إبليس ، ولقد ذاق المسيح كأس الوصال هذه كشفا ، فأطلق شعاراته المشهورة في إفشاء السّلام.
وحقيقة الكشف الصفاتي مستمدة من ظهور الله من وراء حجب الخواطر ، وهجم ابن عربي هجومه الشهير حين قال : إن الوسوسة هي اسم أيضا وسماه الاسم البعيد ، ومن قبله قال عليهالسلام : (القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء) ، فالتوحيد الصفاتي اقتضى جعل الناس في القبضة الإلهية القاهرة ، ومن هنا كان شعار الإسلام الشهير ألا وهو الإيمان بالقضاء خيرا وشرا من الله تعالى.
وتشدد أخلاق الصوفية على التسامح ، وتجد عندهم أقوالا تذكر بأن الصوفي هو الذي لا يرى في الناس من يرسل غضبه عليه ، ذلك لأن كل فعل هو لله تعالى ، وما دام الناس مظاهر الفعل فهم يؤمنون بأن ما يقع بإذن الله أولا ، وأن له حكمة ثانيا ، وأن على الصوفي أن يسلم ويخضع لهذه الحكمة السارية والظاهرة في التضاد ، وهذا ما فعله المسيح.
أما الكشف الآخر وسميناه المشاهدة ففيه يرى المراد كشفا أنه قد فني ، ذلك لأن الله تعدى الخواطر إلى الذات الجزئية ، فتجلى لها ، ففنيت الأنا ، وغرقت في بحر الألوهية الأكبر ، وتحقق المكاشف من ثم بأنه لا إله إلا الله ذاتا كبرى جامعة للتضاد أيضا وظاهرة بالأفعال.
وسئل الجنيد : ما النهاية؟ فأجاب : العودة إلى البداية ، والبداية في الجهاد ، ولقد ذكرنا ضرورة المجاهدة لفتق المعقولات ، وقلنا : لا تكون هذه المعقولات معقولات إلا بالتناقض ، وأن التناقض يقتضي الجهاد ، ولهذا خرج النبي من غار ذاته داعيا إلى حمل السيف إتماما للدعوة التوحيدية التي قضت بأن تكون الذات في جنة العلم المكنون ، ثم ترد أسفل سافلين بهبوطها إلى أرض الحواس والعناصر ، ثم يبدأ عروجها في سموات العلوم الروحانية بالسيف وعلى سلم التضاد والجهاد ، قال سبحانه : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١)) [مريم : ٧١] ، وسئل الإمام الصادق : وأنتم أيضا وردتموها؟ فأجاب : (جزناها أي جهنم وهي خامدة).
فالدعوة إلى حمل السيف هي إذن ضرورة كونية ، وتجد فلسفة هيغل من ألفها إلى يائها