عبدا في كتابه) فهذا الفهم الذي خص الله به عبدا هو ما سماه سبحانه التأويل ، أي استنباط المعاني البعيدة في كتاب الله.
وقوله : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) له صلة بقوله تعالى في موضع آخر : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] ، فالإسلام درجات ، ومنها درجة التكليم الذي قال فيه عليهالسلام : (ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله كفاحا ليس بينه وبينه ترجمان) ، وهذا المقام ما يخص الله به العبد المصطفى فيعلمه تأويل الأحاديث ، وما جعل الله في كتابه من معنى بعيد والله سبحانه يقول إن التأويل إلهي له ميقات محدد كما قال ابن عباس : (لا تفسروا القرآن الزمان يفسره).
٤٠ ، ٤٢ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢))
[يونس : ٤٠ ، ٤٢]
لما كان القرآن كتاب الجمع وصدوره عن العين الجامعة كان صدوره وحي أسماء ، ولما كانت الأسماء ضروبا منها المتآلفة ومنها المتضادة كان وحيها ضروبا أيضا ومنها الوحي الحاجب الذي أبقى بعض الناس محجوبين لحكمة ، وهؤلاء المحجوبون هم المبعدون الذين قال فيهم سبحانه في موضع آخر : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الإسراء : ٤٥ ، ٤٦] ، فبين سبحانه أنه هو الذي جعل الحجاب بين القرآن والكافرين ، والنتيجة أن القرآن يقرأ بالقلب قبل العقل ، فمن كان ذا قلب سليم تقبل القرآن وفهمه وتأثر به وانفعل ، حتى أن أبا بكر كان يبكي إذا قرأه حتى يسمع بكاؤه من الطريق ... أما من كان قلبه مقفلا كما قال سبحانه : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمّد : ٢٤] فهو لا يتقبله ، ولا يؤمن به ، ويرفضه كما كان حال أبي جهل وأبي لهب حين كانا يسمعان كلام الله.
وللبحث صلة بموسيقى الروح من جديد ، ونضيف أن هذه الموسيقى تذوق وذوق ، والتذوق أعمق جذورا من الفكر لأنه ذو صلة بالشعور والوجدان ، ولهذا قلنا إن كثيرا من الأعاجم يقرؤون القرآن ، وينفعلون ، ويبكون ، وهم لا يكادون يفقهون إلا قليلا منه ، فصلة القرآن بالإنسان صلة روحية والروح وجود سابق على الفكر ، وهو أصل له ، والروح خالد والفكر مادي قابل للزيادة كما في حال بلوغ الأشد ، وقابل للنقصان كما في حال بلوغ الكبر.
٤٣ ، ٤٤ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ