قيمة الجهاد كامن في شدة البلاء ، وعظمة الصبر والمصابرة كائنة في ساعات الشدة والعسرة والرعب. ولو أن جهاد النفس الأمارة لم يكن شديدا كما وصفه عليهالسلام بأنه الجهاد الأكبر لما سمي جهادا أصلا ، إذ الجهاد من المجاهدة والجهد أي التعب العظيم ، ويقال في اللغة لقد بلغ به الجهد ، أو بلغ منه.
٨٧ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧))
[يونس : ٨٧]
مصر مدينة البدن ، والبيوت كوى الأسماء في هذه المدينة ، فمصر المدينة الجامعة ، أو البدن الجامع ، أو الجسم الكلي ، أو العالم المادي الكبير وبيوت الأسماء موضع الأسماء من هذا العالم كما كنا تحدثنا عن سبق وجود المعقولات للمحسوسات كما قال كانط وهيغل ، ومن قبلهما فلاسفة المسلمين ، ومن قبلهم فلاسفة اليونان وعلى رأسهم أفلاطون.
وقوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) يعني يمموا وجوهكم شطر مسجد القلب حيث نور الروح يشرق في البصيرة ، فالإسلام لا يحول بين المسلم والعالم ، ولقد عدّل الإسلام موقف الزهد المسيحي حيث قال سبحانه : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) [الحديد : ٢٧] ، وقال صلىاللهعليهوسلم : (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني). وقال سبحانه : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢] ، فالإنسان خلق من تراب الأرض ليأكل من خيرات الأرض ، ثم يولي وجهه شطر ربه يعد ذلك ، وهذا معنى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣] الوارد في الآية.
ولئن أعلن الصوفية وفلاسفة التوحيد حربهم على العقل الفكر وأساليبه المنطقية فلقد فعلوا هذا دفعا للإعتماد على العقل وحده كما فعل أرسطو وأشياعه. وما عملية تجريد المعقولات من المحسوسات سوى التطبيق العملي لعلم المنطق في المرحلة الأولى من جمع المعلومات ، حتى إذا بلغ العقل أشده وآن أوان حلول اليقين ، ألقى المجاهد سلاحه ويمم شطر المسجد الحرام ودخل من باب السّلام ، ليجد السّلام في ربوع الحرم وهو طائف بالكعبة ، ثم قصد جبل عرفات لتتم المعرفة ، فالمعرفة إذن درجات ، والطريق إليها ذو شعبين شعب يفضي إلى العالم العياني ، وشعب يفضي إلى العالم الروحي الجواني.
٨٨ ـ (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨))
[يونس : ٨٨]