قال صلىاللهعليهوسلم : (من طلب الدنيا طلبته الآخرة ، ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه). والمعنى أن من يولي وجهه شطر الدنيا تأكله الدنيا لأنها حلوة خضرة ، هي في حقيقتها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، فالإنسان ما خلق إلا ليعرف ربه ، ومن دون تحقيق هذه الغاية فلا راحة لإنسان في هذه الدنيا. وتجد الغربيين الذين اعتمدوا الدنيا ، ومدوا أعينهم إلى زينتها فقط ، وأنكروا الله والروح ، تجدهم ضحايا الكآبة والسأم ، وتتفشى فيهم أمراض تعاطي المخدرات والأمراض النفسية كالعصاب ، وتبلغ نسبة الإنتحار عندهم أعلى نسبة في العالم ، وهذا كله ناجم عن أن الإنسان لا تشبع حاجاته عطايا الدنيا وحدها. وهو ما لم يحقق غاية الله من خلقه فستظل روحه ضائعة تحس الخواء وتعيشه.
٨٩ ، ٩١ ـ (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١))
[يونس : ٨٩ ، ٩١]
مجاوزة البحر مجاوزة العالم المادي إلى العالم الروحي ، أو عالم الإمكان إلى عالم الوجوب ، أو عالم الأعراض إلى عالم الجوهر. وبنو إسرائيل أصحاب القلوب السليمة المتوجهة إلى الله ، فإذا تحقق هذا غرق فرعون وجنوده أي النفس الأمارة وخواطرها.
٩٢ ـ (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))
[يونس : ٩٢]
قوله : (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) يعني أن النفس الأمارة لا تموت ، ولكن يموت طغيانها ، وإذا نظرنا إلى المثال المضروب على أساس أن الإنسان الواحد لا كالكثرة ، كان المعنى أن القلب بعد توجهه إلى عالم الروح تنكسر شوكة نفسه المضادة أولا ، ثم تقر وتؤمن بأنه لا إله إلا الله ثانيا ، وهذا ما فعلته زليخا امرأة العزيز بعد أن راودت يوسف القلب عن نفسه.
وعند بلوغ السالك مقام الفناء تكون نفسه فنيت ، وما تفنى نفسه بل تفنى آثارها وأفعالها ، أي إحساسها بأنها قائمة بذاتها لا بالله. والفاني ليس من فني ، بل هو من رأى فناء فعله وصفته وقيام نفسه بالله صفة وفعلا.
٩٣ ـ (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))
[يونس : ٩٣]
مبوأ صدق الوصول إلى اليقين ، وعند بلوغ عين اليقين تتفجر ينابيع العلوم منها ، وهذا ما