إن الإنسان مقر للذات والصفات وجسر ومعبر ، فإذا كان الله هو السر والعين والنجوى فكيف يستخفي الإنسان منه ، بل ما ذا يبقى من الإنسان بعد أن يجرد من سره وعينه ونجواه؟
٦ ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦))
[هود : ٦]
الدابة في الأرض مثل الفكر في الجسد. فالفكر يشع عن الروح بواسطة الدماغ ، ولا فكر بلا دماغ ، مثلما أنه لا ضوء بلا مصباح ، ولا دماغ بلا روح مثلما أنه لا مصباح بلا كهرباء ، فالمصباح بلا كهرباء ليس مصباحا.
والرزق مقدار سعة الفكر ، ووصف سبحانه هذه السعة بقوله في موضع آخر : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرّعد : ١٧]. وقال عليهالسلام : (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس). ووصف اسبينوزا وجود البله والعجز بأنهم نوع من الخلق ، وأن لله كل أشكال الوجود.
فالفكر في ارتقائه حتى أفق الإبداع ، وفي هبوطه حتى حضيض البله هو ترمومتر ، عليه يصعد الروح الفاعل ، ويهبط موحيا إليه وملهما إياه ، ويشكل الوجود الفكري الإنساني هرما وجوديا يقف الأنبياء والأولياء والعلماء على رأسه ، ثم الأذكى فالأذكى ، وكل له موقعه في الوجود مثلما أن لكل حجر موقعه في الهرم.
والمستقر المقر ، وهو الإنسان الظاهر الشخصي الجزئي ، والمستودع انسحاب الجزء من البدن إلى الكلي الذي هو النفس الكلية. ولما كانت النفس الكلية لا تنفك عن الجسم الكلي كانت عملية الدخول والخروج والإرتباط والإنفكاك اعتبارية ضربنا مثلا لها في كتبنا السابقة قائلين إن الحركة الوجودية هي مثل حركة اللولب إذا ثبّت عينك على نقطة منه ترى أن هذه النقطة تصعد من أسفل إلى أعلى ، في حين أن حركة اللولب ذاتها دائمة ، وهي في تحركها ثابتة وفي تنقلها مستقرة ، والنقطة التي لا حقتها عينك وهمية لا وجود لها إلا في نظرك ، وكذلك هذا الخلق من ظاهر فيه ومن مستخف ، ومن خارج ومن داخل ، هو على الحقيقة حقيقة مشعة في هذه الثياب الملونة.
٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))
[هود : ٧]
الماء العلم ، والعرش على الماء السلطان الإلهي الذي في قبضته علم الوجود الأزلي ، وكل ما بدا ظاهرا في الوجود الظاهر ظهر من أصل علمي وإلا لكان الفساد قد ظهر فيه ، فإن