والحقيقة أن العارف المحقق يقرأ ، بل كل عبقري يسمع ويقرأ القصص والأخبار حتى أن النبي نفسه اتهم بأنه قال ما قال ، وأتى بالقرآن وذلك بعد أن ظل يسمع في أسفاره ورحلاته التجارية من الرهبان والأحبار والقسيسين. وقال السهروردي : لا بد للعارف من دراسة الفلسفة ليتعلم التعبير عما يريد. وقيل في الروائي تولستوي الذي كان وحش القراءة : لم يكن يقرأ ليقلد الآخرين بل ليستخلص الشيء الخاص به. ثم إننا قلنا إن العالم كله ظاهرا وباطنا ملك لله ومسرح نشاط الروح ، فلم لا يستعين العارف بعلوم الآخرين بالإضافة إلى العلوم التي حصلها وعلمها كشفا وذوقا؟
٨٧ ـ (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))
[يوسف : ٨٧]
طلب يعقوب لولده يوسف هو طلب الروح الموجود في الصدر للقلب الذي هو ممثل الاسم العليم. والحقيقة أن هذا الطلب من وإلى .. فالأصل كما قلنا اقتطاع شطر من الذات تكون ممثلة الاسم العليم ، وقلنا إن هذا الاسم قصد العالم السفلي لكي يستخلص علومه من جبه فالرحلة ضرورية. ولما كان الشطر الجزئي جزءا من الروح الكلي فإن هذا الروح هو بمثابة الأب الوالد الذي يظل يرعى ولده ، ويخاف عليه ، علما أنه يناجيه ويكلمه ويسدده ويحفظه كما قيل في تفسير : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) إنه رأى أمامه أباه ليصرف عنه السوء والفحشاء.
وقوله : (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) يعني أن الناس ، وبخاصة من كفر ، ينتابهم اليأس ، ويأخذهم ويهزمهم ويهدهم ، ولكن العارف موصول بربه. وقال الإمام النفري عن ربه : كيف تيأس مني وفيك متحدثي وسفيري؟
٨٨ ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨))
[يوسف : ٨٨]
البضاعة المزجاة المعقولات المستخلصة من المحسوسات والتي هي غير ذات جدوى مادام نور الهدى لم يشع في البصيرة ، ليكشف أسرار الغيب وحقائقه.
وقوله : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) يعني طلب الأسماء إلى صاحب الاسم العليم أن يمن عليها بعلمه الجامع كما قال موسى للعبد الصالح : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) [الكهف : ٦٦] فمشكلة المعقولات أنها مجزأة ، فكل معقول متخصص في مجاله ، وهو أمر تعرفه الفلاسفة والعلماء الإختصاصيون ، فلا قبل لأحد على تحصيل العلم الجامع ، ولكن القلب الذي تفتحت بصيرته يفعل ، فترى العارف محيط بكل شيء خبرا ، وعلى رأس