موجودا بالفعل إذا حصلت صورته.
وتدوم تعبئة النفس بالمعلومات تماما مثلما يشحن الحاسوب طالما أن الإنسان يتعلم ، حتى إذا نضج وآتى أكله من محاصيل العاقلتين النظرية والعملية بدأ دماغه يغيض ، ووصف هذا في الآية بأنه غيض الرحم .. ثم تأتي مرحلة يبلغ الإنسان فيها أرذل العمر فلا يعلم من بعد علم شيئا ، وكنا فصلنا الكلام في هذا في كتابنا «الإنسان الكبير» ، وتحدثنا عن طباعة المعلومات في خلايا الدماغ ، وعن سر عملية الترميز ، ثم عن مرحلة جفاف الخلايا حين يمسها الكبر وموتها فينسى الإنسان ما كان حفظه ، ولا يعود قادرا على استقبال معلومات جديدة.
وقوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) إشارة إلى قوله تعالى في موضع آخر : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرّعد : ١٧] فكل إنسان واد ، ولواديه سعة معينة كما قال عليهالسلام : (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس) ، والكيس الذكاء والفطنة ، فالهرم الوجودي مبني وفق نظام مبرمج هدفه عمارة الوجود. والله حين يخلق الخلق يخلقه بمقدار ، ويخلق سعة القلب بمقدار ويخلق نشاط الدماغ بمقدار ، ويخلق المتناقضات بمقدار ، ويخلق الأمم بمقدار ، ويجعل الأمم بعضها فوق بعض ليتخذ بعضها بعضا سخريا بمقدار ، ولا أدل على هذا النظام الوجودي المبرمج مما كشفته البحوث الحديثة في نظام الطبيعة حيث اكتشف أن الله خلق من الحيوان ما هو آكل للحم وما هو آكل للنبات ، وسخر الحيوان بعضه لبعض بحيث لو لم يأكل الحيوان المفترس الحيوان النباتي لطغى الماء ، واختل الميزان ، وأصاب الفساد النظام الطبيعي. واكتشف مثلا أن الفهد يأكل فريستين أو ثلاثا في اليوم الواحد فهو في حاجة إلى ألف فريسة في العام من الظباء وأضرابها ... ولقد غطى نظام تكاثر الظباء هذه الحاجة بحيث أنه لو لم يلتهم الفهد وأمثاله من الوحوش الظباء وأمثالها لكثر أعداد هذه الأخيرة ولعثت في عالم النبات مفسدة حتى تأتي على عالم النبات.
وفي مجال الحضارات نجد الأمم طبقات ودرجات فمنها المتحضرة ومنها المتأخرة ، ومنها المنتجة ومنها المستهلكة ، ومنها ذات الإنتاج الصناعي ومنها ذات الإنتاج الزراعي ، ومنها من تملك المواد الخام ، ومنها من تملك بوفرة اليد العاملة ، وجميع هذه الأمم تشكل توازنا بيئيا كاملا متكاملا بحيث تتحقق عمارة الحياة. ولقد حاولت الفلاسفة والعلماء دراسة ظاهرة ظهور الحضارات وانتقالها وازدهارها وانحطاطها وزوالها فلم يخرجوا من بحوثهم إلا بالحيرة ، وبقيت الحقيقة سرا غامضا هو وراء ظاهرة التحرك الحضاري هذه علما أن العلامة ابن خلدون قال ما قال في هذا المجال.