عن ماء لتسقيه ، إذ كان المكان غير ذي زرع وغير ذي ماء حتى فجر الله نبع زمزم ...
والمعنى أن الفكر يظل حيران في هذه الدنيا حتى يأتيه اليقين وتأتيه البشرى بحلول ليلة القدر ، وفيها يرفع الستار ، ويكشف الحجاب عن الحقيقة.
فليس من قبيل المصادفة أن يكون مقام إبراهيم بجوار الكعبة ، إذ أن الكعبة رمز الوجود العيني العياني ، وهو وجود إلهي روحي كما قال هيغل ، والحجر الأسود الموجود فيها إشارة إلى الذات اللطيفة التي تنتظر الميقات فتستيقظ ، وهذا ما أشارت إليه الآية بولادة الولد الثاني لإبراهيم وهو إسحاق ، وأمه سارة من أسر إلى النفس ، فالحديث كله خاص بإبراهيم ، وإن كان ثم ذكر لولادة ولديه إسماعيل وإسحاق ، فنحن أمام الإنسان الموحد ، تعين الإنسان الكامل وممثل الجنس البشري كله ، والإنسان الكامل روح الوجود كله.
فإبراهيم عاش أولا مرحلة فكرية تناقضية كان الضمير فيها يلهمه ، ويسدد خطاه في رحلته الروحية ، ومثل هذه المرحلة اسم إسماعيل أي سماع صوت إله المقولات كما قلنا ، ثم جد في الأمر جديد لما ولد لإبراهيم ولد ثان أو ولد هو ولادة معنوية فاكتشف أن وراء طور الفكر فكر ثان هو عقل جمعي جامع فاعل وهو صوت الحق والتوحيد ، وهو الله على الحقيقة.
وفي الفلسفة اليونانية اشتهر ضرب المثل بالولادة الذاتية هذه ، ففلاسفة الغنوصية قالوا بالولادة ، وضربوا مثلا كيف يولد الشيء من الشيء أي يخرج منه ، أي يخرج الباطن من الظاهر ، فإذا الله ظاهر للعيان كما تراه الصوفية ، وفي الغنوصية ولادة العقل الفعال من الذات الصرفة ، وولادة النفس الكلية من العقل ، وولادة النفوس الجزئية من النفس الكلية ... ومجموعة الولادات هي الإنسان الجامع ، ومثله إبراهيم عليهالسلام الذي كان أبا الأنبياء ونبي التوحيد.
فما ضرب الله الأمثال في القرآن إلا ليتعظ الإنسان ، وابن عربي يقول : وتحسب أنك جرم صغير ، وفيك انطوى العالم الأكبر ، فالإنسان صورة الكون ، وهو الوحدة في الكثرة ، وهو الكثير في واحد ، وهو البضع ، وهو الجمع ، وهو الأجزاء ، وهو الحق ، وهو الخلق ، فنحن أمام صورة الرحمن آدم ، جاء في كتاب كشف الوجوه الغر يمكن قياس ظهور الحق بصورة العبد من غير حلول على ظهور جبريل بصورة دحية دون أن يحل فيه ، فلم يكن جبريل دحية بسبب ظهوره في هيئته ، كما لم يكن الحق عبدا بسبب ظهوره بصورته.