جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣))
[النحل : ٢٣ ، ٢٢]
قوله : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ذو مغزى عظيم ، وهو قاع بحر الحقيقة فكيفما غاص الإنسان أو عام فهو في بحر الوجود الذي إلهه إله واحد ، ولقد تحدثت الصوفية كثيرا عن كون المعبود ، أي معبود ، هو الله ، وإن عبد المظهر أحيانا كالنار ، والوثن ، وسر ذلك أن الداعية القلبي هو إلهي ، فتوجه الإنسان إلى تحقيق قصد معين هو توجه إلهي ، ولهذا قالت الصوفية : إن الإرادة الإنسانية داخلة في نطاق الإرادة الإلهية ، والآية أشارت إلى الإله الواحد ، ثم وصفت هذا الإله بأنه إله الجمع ، والنتيجة أن كل توجه يميني وشمالي ، ظاهري وباطني ، إيماني وإلحادي ، هو قصد إلهي ، وإلا لكان في الوجود آلهة بعدد البشر ، ومشيئة كل منهم ، وإرادة كل أحد وهذا مستحيل. وترى في الآية وصفا للذين لا يؤمنون بالآخرة وقلوبهم منكرة ، ومع هذا فهذا الوصف تبع القول إن إله البشر إله واحد ، وتفسير هذا أن القلب المنكر منكر بمشيئة الله أيضا ، فهذا الإنكار يذكر بإنكار إبليس لأمره تعالى الملائكة بالسجود لآدم عليهالسلام ، وقالت الصوفية : إن إبليس مجبور في إغوائه ، ونضيف : حتى في إنكاره ، فما أنكر المنكر إلا بعد أن ألهمت نفسه بأن ينكر ، وبهذا يكون سياق الآية واحدا ، وهو كونه تعالى السائق القاهر.
٢٤ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤))
[النحل : ٢٤]
أثبتت الدراسات الفلسفية الحديثة ، ومنها دراسة الفيلسوف الألماني شيلنغ في كتابه «فلسفة الأسطورة والكشف» ، أن الأساطير ذات أصل توحيدي ، وكنا قد بحثنا هذه المسألة مطولا في كتابنا «الإنسان الكبير» ، ويؤكد شيلنغ أنه ما من أسطورة إلا ولها أصل توحيدي ولكن الناس حرفوها من بعد ذلك ، وأخفوا الظاهر وتعلقوا بالمظاهر ، وهذا حال كل الأساطير التي عرفها التاريخ.
٢٥ ـ (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥))
[النحل : ٢٥]
حمل الأوزار إشارة إلى النتيجة المترتبة على تحريف الأساطير ، ونحن نقول أساطير من باب التعريف بحكايات التاريخ ، وإلا فالأساطير ليست أساطير كما أسلفنا القول ، وتحولها إلى أساطير هو الذي جعل لها أوزارا يحملها المحرفون والمؤمنون بالأساطير المحرفة.
وقوله : (يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ،) إشارة إلى أن كثيرا من المحرفين حرّفوا عن جهالة ، ولم يكن قصدهم تحويل الأسطورة عن معناها الحقيقي ، وهذا شائع في القبائل البدائية والمنجمين والكهنة الذين يعتبرون حكماء حاكمين متوجين في هذه المجتمعات التي تجد فيها ريح الألوهية الشاملة الظاهرة في عبادة الصور.