ربيع ، والأشجار قد اكتست حلة قشيبة من الزهر ، وانظر إلى ظبي صغير وهو يرضع ثدي أمه ، ثم قارن بين هذه الروائع والروائع التي صنعها فنانون كبار أمثال دافنتشي ورامبرانت وميشيل أنكلو ورينوار ، تجد أن ثمة خيطا رفيعا يفصل بين روائع الطبيعة وروائع الفن ، هذا الخيط هو الخلق ، فالفنان يخلق ، إلا أن خلقه تجسيد ، والتجسيد تثبيت ، إنه قادر على أن يرسم وجها جميلا كالجيوكندا ولكنه عاجز عن أن يجعل عيني الوجه تتحركان أو تومضان ، أو أن يجعل الصورة تتكلم ، ولعل هذا هو السبب الذي جعل رساما ونحاتا عظيما هو ميشيل أنكلو يقف أمام تمثاله الخالد موسى متأملا ، ثم أهوى بإزميله على قدم التمثال ، وصاح فيه : إنطق ، إلا أن التمثال بالطبع لم ينطق ، وكانت النتيجة أن التمثال فقد إصبعا من أصابع قدمه.
فالخلق الإلهي هو غير الخلق البشري ، وما يميز الإلهي عن البشري هو أن الإلهي فيه روح ، أي حياة ، أي حركة وشعور وإدراك ، في حين أن الخلق البشري ليس إلا تصويرا لشيء جميل ، والصورة ميتة ليست ذي حياة ، ووصفناها بتثبيت لحظة عابرة. ولقد ضرب الله مثلا في الآية قائلا : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ،) فالخلق من صنع الله ومن اختصاصه وحده ، ولقد تحدثنا من قبل عن خلق البعوضة والذبابة ، فبين الله والإنسان ثمة سور لا يمكن طفره ولا تجاوزه ، هذا السور له أسماؤه كالخالق البارئ المصور.
٢٠ ـ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠))
[النحل : ٢٠]
في الآية ذكر آخر لإعجاز الخلق وهو موقف الإنسان من نفسه ، فالإنسان جاء إلى هذه الحياة مخلوقا لا خالقا ، أي أنه لما وعى وجوده وجد نفسه مخلوقا لا خالقا ، وواضح أن الإنسان لا دور له في خلق نفسه ، ولا في صنع صورته ، ولا في تحديد قامته بل ولا في اختيار طباعه وميوله ... فهذه كلها خلق ، وهي خلق إلهي ، والإنسان يتصرف في هيكله ، وبهيكله علما أن هذا الهيكل ليس له ، ولئن تصرف فيه فبحكم العارية.
٢١ ـ (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١))
[النحل : ٢١]
الإشارة إلى الغفلة التي تعم الناس جميعا ولا يشعرون ، وقال صلىاللهعليهوسلم : (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ، فالنوم الذي ذكره النبي هو مثل الموت المذكور في الآية ، والمعنى أن الإنسان غافل عن معرفة حقيقته وحقائق الوجود من حوله إلى أن يستيقظ ، والمهم القول : إن ثمة حجبا تلف الإنسان ، فإذا رفعت الحجب استيقظ الإنسان اليقظة الحقيقية الروحية والتي وصفها سبحانه بأنها : البعث.
٢٣ ، ٢٢ ـ (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا