والفلك ما يعوم به الإنسان في بحر الحياة العاصف الذي كم أغرق من أمم ، فما يحفظه التاريخ من الإنسان ليس إلا سيرة العظماء الخالدين من ذوي الأخلاق والشجاعة والحكمة وما شابه ، ولهذا قال هيغل : إن الروح يظهر في ما ينتج من فلسفة وفنون ، كما يظهر بظهور الأنبياء وأكابر الرجال ، والمهم القول : إن هذا الفلك هو فلك نوح الذي نجا به وعليه من طوفان الهيولى التي تغرق كل ذي حياة إلا من تغمده الله برحمته ونجا.
١٥ ـ (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥))
[النحل : ١٥]
الرواسي الأخلاق الشوامخ من الصفات الجميلة ، ولقد قال القسيس لجوليان بطل رواية «الأحمر والأسود» للمؤلف (ستندال) : أخلاقك رأس مالك الوحيد ، وقال سبحانه : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٨ ، ٨٩] ، فإذا أردت أن تستند إلى قاعدة صلبة ثابتة في هذه الحياة فعليك بالأخلاق الرواسي.
١٦ ـ (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦))
[النحل : ١٦]
سبق أن تحدثنا عن النجوم الهاديات ، والملاحظ هنا أن النجم ذكرا مفردا ، وقيل إنه ذكر بمعنى النجوم ، والتأويل يقبل التفسيرين ، فباعتبار النجم المفرد فالنجم الضمير ونور الهدى وهو واحد كلي موجود في كل الناس ويشارك في الهدى كما تكون الكهرباء وسيلة وشرطا لإضاءة المصابيح ، قال كانط : شيئان يملآنني إعجابا يوما بعد يوم النجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في داخلي ، فليس ثمة إلا الروح الكلي ظاهرا وباطنا ، وعلى هذا الروح الكلي أقام هيغل صرح موسوعته الفلسفية الضخمة التي تعتبر منارة تهدي الناس سواء السبيل ، وتبين ما للروح من دور في هذا الوجود ، وما ظواهره ، وما قوانين هذه الظواهر.
أما على مستوى الجمع ، أي أن يفسر النجم بالنجوم ، فالمنطلق من الشمس إلى الأشعة ، ومن الأشعة إلى الكواكب المستقبلة للأشعة والأقمار ... فهذا صدور من الواحد الذي هو أصل الأعداد إلى الأعداد نفسها المقومة بالواحد ولا وجود لها إلا به ، ويشارك في هذه العملية القيومية النجوم الثوابت أي الأعيان الثابتة التي كنا تحدثنا عنها ، وهي المثل الأفلاطونية وصور أرسطو ذات الكمال التي تجذب إليها المادة ولا تنفصل عنها مادام الوجود قائما.
١٧ ، ١٩ ـ (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩))
[النحل : ١٧ ، ١٩]
أنظر إلى وجه طفل جميل وتأمل هذا الإعجاز في الخلق ... أوقف عند الغروب متأملا الأفق وبخاصة إذا كانت ثمة سحب توشي السماء ، أو إنطلق في البساتين والبراري ، والدنيا