كما قال سبحانه في موضع آخر : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١] ، والإشارة إلى البدن في انتقاله من ضعف إلى قوة ، ثم ارتداده إلى الضعف من جديد ، كما أن من بدأ حياته جاهلا صار عالما ، ثم عاد جاهلا إذا ما مسه الكبر أو أصابه الخرف ، فالأمر بيد الله ، وقد يخسف الله أرض البدن بإصابته بمصيبة ، وكم من عالم عاد جاهلا لما أصيب بمرض فقدان الذاكرة ، فهذه الآلة المعقدة التي هي الإنسان محملة على الله وبالله ، والله يفعل بها ما يشاء يذهب بها ، ويأتي بخلق جديد.
والتقلب يذكر بقوله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)) [الرعد : ٣٩] ، كما ويذكر بقوله صلىاللهعليهوسلم : (أو ما يدريني أن القلب مثل ريشة في الفلاة ، تقلبها الريح كيف تشاء؟) وكان قسمه صلىاللهعليهوسلم : (لا ومقلب القلوب) ، فالقلب في قبضة الرب يقلبه كيف يشاء.
وأخذ الله قلوب الذين مكروا السيئات يكون عن طريق مكر السيئات نفسه ، فالله عند ظن العبد به إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فإذا كان ماكر السيئات قد أراد هذا فالله يمكر به عن طريق مكره هو نفسه ، وهو أمر كنا فصلنا الكلام فيه من قبل.
٤٧ ـ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))
[النحل : ٤٧]
الأخذ على التخوف هو الوجه الآخر من الأخذ في التقلب فهاهنا عاد العبد إلى الله راجيا خائفا ، يبثه همه ، ويدعوه ، ويستغيثه ، والله عند ظن هذا العبد به فيلبيه ، وينجيه ، ويمده بمدد من عنده هو النور الإيماني اليقيني الذي يخرج القلب من الظلمات إلى النور.
٤٨ ، ٤٩ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩))
[النحل : ٤٨ ، ٤٩]
الآيتان تعبران عن الخضوع القهري لله الواحد القهار ، والآية الثانية بخاصة تبين أنه ما من مخلوق إلا وهو لله ساجد علم هذا أم جهل ، وأن جهل الجاهلين ومكر الماكرين ونفاق المنافقين هو كله في القبضة ولكن لا يعلمون ، ويكون السجود بطبع القلوب والنفث في الروع والإلهام فجورا وتقوى ، فالله من وراء كل شيء محيط ، وهو الإله الأوحد الفرد الصمد الذي لا إله سواه.
وقوله سبحانه : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) إشارة إلى توجه الإنسان إلى الصفات يمينية وشمالية ، فما من إنسان إلا وهو تحت جناح صفة أو صفات ، ولله المشرق والمغرب ، وأنى توجه العبد قاصدا صفة ولابسا لبوسها فالله هو الذي يلبسه إياها.