وذا الحاجة والمشرف على الغرق يدعون الله بالفطرة ويستغيثونه علما أنهم قد لا يؤمنون به عقلا ، وإلى هذا أشارت الآية الرابعة والخمسون التي توضح حال هؤلاء الناس ، فالإنسان مادام في حاجة إلى مغيث استغاث قلبا فيه ، فإذا كشف عنه الضر عاد إلى عقله ، وعقله أي فكره كله تناقض ، فارتد مشركا ثانية يقول أنا وأنا ...
٥٦ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦))
[النحل : ٥٦]
قوله سبحانه : (لِما لا يَعْلَمُونَ ،) هو رد العلم إلى اللاعلم أو الجهل ، ورد النظام إلى الفوضى أو المصادفة ، ورد العقل إلى نشاط الطبيعة والطبيعة صنم كبير ، فمن يعمل عقله في كل شيء ينس حين يشرك ويلحد أنه بنفيه وجود الله قد جعل الجهل والفوضى والعبث والمصادفة أسس الوجود وهذا غاية الحمق ، قال فولتير : لو لم يكن الله موجودا لوجب إيجاده.
٥٧ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧))
[النحل : ٥٧]
وصف الملائكة بأنهم بنات ، وقولهم : إن الملائكة بنات الله إثم عظيم ، أولا لأن الملك كما أوضحنا هو معقول ، والمعقول فاعل نيابة عن فاعل الذي هو الروح ... ثانيا لأن الملائكة لا يكونون بنات ، أي إناثا ، أي منفعلين سالبيين ماداموا هم الجند والخواطر ، أي هم مقلبو القلب الشمال واليمين ... ثم إذا رد الملائكة إلى الله باعتبارهم بناته فالنتيجة إشراك المعقولات في العقل الكلي وهذا شرك أيضا ، لأن المعقولات فيض وإشعاع عن العقل الكلي ولا وجود لهم بأنفسهم مادام كل شيء يقوم بالله ويوحد بالله.
٥٨ ، ٦٠ ـ (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠))
[النحل : ٥٨ ، ٦٠]
الأنثى صورة المعقول في الخيال ، والخيال الحد الفاصل بين العالمين الروحي والمادي ، ولقد تحدثنا عن ملائكة المعقولات المشعة عن النور الأصيل ، وقلنا : إنها فعالة مثلما أن أباها فعال ، أما صور هذه المعقولات فهي ما يتراءى للفكر في خياله ، ولكل إنسان خياله ، ولكل إنسان حصيلة من المعقولات والأنثى هنا ، وإن كانت سلبية قابلة ، فإن لها قيمة الذكر الفاعل ، فلو لا العالم المحسوس ما ارتسمت في شاشة خياله صور المعقولات وعليه فللعالم المحسوس قيمة لا تقل عن العالم المعقول.