وكذلك فإن لكل صورة خيالية مجردة من الواقع قيمة المعقول التي رسمها ، ولهذا فإن صفة الأنوثة تطلق على الذات الإلهية أيضا ، وهي تضرب مثلا للخصوبة والعطاء ، فلا فارق إذن في القيمة بين الذكر والأنثى لأن كليهما شرط للآخر ولو لاه لما كان الآخر ، فللمنفعل قيمة الفاعل ، وما قيمة الفاعل بلا منفعل؟
والعرب في الجاهلية كانوا يتشاءمون من الأنثى ، وكانت لهم أسبابهم المعروفة ، منها الناجمة عن الغزو من استحياء الإناث واتخاذهن إماء والتسري بهن ، ولكن الله يذكر في كتابه بقيمة الأنثى الوجودية ، وهذا أمر يذكر أيضا بصلة العلة بالمعلول في الفلسفة ، وقد تحدثنا عنها مرارا قائلين : لو لا معلولية المعلول ما كان لعلية العلة أن تتحقق.
وقوله : (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ ،) له لطيفة ، ذلك أن الأنثى باعتبارها من الوجه القابل المخلوق من تراب ، كما خلق آدم وحواء ، فالجاهل من الناس يرد النفس إلى تراب ، والنفس وإن كانت تنفخ في الجسم بعد تسويته وتصديره وعدله إلا أن مصدرها إلهي ، وعملية النفخ إلهية ، ولهذا ورد في الآية التالية قوله سبحانه : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ).
٦١ ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١))
[النحل : ٦١]
الأجل آجال الأسماء ، وكنا قد تحدثنا عنه من قبل ، فالذين يفرقون بين الله والوجود ، وفعله في الوجود ، وكونه هو الوجود ، لا يعلمون أين الله من الوجود ، وكيف يفعل في الوجود ، وكيف يكون هو الوجود ... وما دام ليس في الوجود إلا الله فإن ما يقع في الوجود هو الفعل الإلهي وآثاره وترتيبه وتقديره ، وهذا ما عبر عنه في هذه الآية بالأجل المسمى ، فإن كان الأجل شيئا فهو الزمان الوجودي نفسه مع الهيمنة الإلهية عليه وتصرف فيه باعتباره سبحانه كل يوم هو في شأن.
٦٢ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))
[النحل : ٦٢]
العودة إلى القول إن الملائكة إناث ، وإنهن بنات الله ، والله منزه عن الشرك والشركاء كما بينا ، ونجد ابن عربي في رده على النصارى القائلين بالتثليث ، وبألوهية المسيح وأمه يقول : لو أنهم لم يحصروا الله في المسيح وحده لما كفروا ، ولكن الحصر هو الكفر ، فما دام الوجود كله هو الله فلا يوجد من ثم وجود ثان إلى جانب الوجود الإلهي ، وهذا هو معنى لا إله إلا الله.
٦٣ ، ٦٤ ـ (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ