فلقد ظل النبي صلىاللهعليهوسلم حتى الأربعين من عمره يتجر بمال زوجه خديجة متنقلا بين الأمصار ، لا علم له يميزه عن الناس علما أنه كان على خلق عظيم ، وقد اشتهر بأمانته ، وقال له عمه أبو لهب : ما جربنا عليك كذبا.
أما بعد النبوة فلقد حدث التحول العظيم ، واحتل النبي مكانته الكبيرة التي خلدته على مر القرون ، ولو شئنا أن نبيّن أبعاد فضل الله على النبي صلىاللهعليهوسلم لما كفتنا المجلدات ، ولقد ألفت ألوف الكتب في شرح هذا الفضل العظيم ، ويكفي ضرب القرآن مثلا لفضل الله على نبيه حيث جعله اللسان الناطق بالقرآن ، ثم آتاه الصفات السبع الإلهية المسماة المثاني والفصاحة والبلاغة حتى احتلت أحاديث النبي الدرجة الثانية في الفصاحة والبلاغة بعد القرآن ، كما تعتبر هذه الأحاديث الأساس الثاني في الاستشهاد باللغة العربية الفصحى بعد القرآن أيضا ... وكل هذا والنبي أميّ لا يقرأ ولا يكتب ، وكان كتاب الوحي يكتبون ما يقول.
٨٨ ، ٨٩ ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))
[الإسراء : ٨٨ ، ٨٩]
القرآن من وحي الروح ، والروح هو الفاعل في الإنسان وهو وحده الفاعل ، وللروح الخلق والأمر ، ومن أسمائه الحي أي كل ما يتعلق بالحياة ، ويقول هيغل إن من نتاج الروح ما يوجد من فلسفة وفن وأدب وشعر ، فالروح هو الملهم لكل ما يدرج تحت أسمائه تعالى المصور والخلاق والبديع.
والآية تتحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثل القرآن ، والحقيقة أن نتاج كل فن حقيقي أصيل يكون نسيج وحده لا يمكن تقليده أو الإتيان بمثله هو من عمل الروح ، ولهذا احتلت الأعمال الفنية الأصيلة مكانتها العظيمة عند الناس وخلدت على مر الزمان.
وما يقوله الروح لا يقوله الإنسان ... ذلك أن الإنسان من قوابل فعل الروح ، والقوابل درجات ، وما لم تجل النفس جليا ، كما يجلى السيف فإن قبول القابل لإلهام الروح يكون على درجات ، ومن القوابل الأمثل فالأمثل.
والقرآن مثل أعلى في الفصاحة والبيان والتصوير البياني وفي تركيبه اللغوي ... ذلك لأنه نزل على النبي الذي هو صورة الإنسان الكامل ، فالإلهام كان من مستوى وحي ، أي أن المرآة المتلقية كانت من الجلاء للاستقبال والتلقي في الغاية ، وسمى ابن عربي أعلى درجات هذا التلقي إملاء حيث يكون الروح الفاعل وحده بلا واسطة النفس فيملي كما يملي الأستاذ على التلميذ.