والقرآن تنزيل من لدن الحضرة ، والحضرة إشعاع علمي نوراني خلاق كامل ، وهو أساسا أساس الحياة وأساس ما فيها من كل شيء حي ، فمن هو القادر على مجاراة عطاء هذه الحضرة التي لا حضرة قبلها ، ولا وجود يوازيها ، ولا وجود يعقبها ، فما نزل من لدن الروح هو المحكم والبديع والنظم الصادر عن موسيقى الكلمة ، وموسيقى الحرف ، ومن قبل ذلك موسيقى الروح ، فللقرآن إيقاعه الخاص الخفي الذي يحسه القارئ إحساسا من قبل أن يعي معانيه ويفهمه ، ولهذا انفعل بقراءة القرآن الصغير قبل الكبير ، والأمي قبل المتعلم ، وكان تأثيره عظيما في الناس أجمعين ... ذلك لأن القرآن يخاطب العين من كل عيان ، فهو ما عني به قول القائل ما صدر عن القلب وقع في القلب ، وما صدر عن اللسان لا يجاوز الآذان ، ولهذا كانت المشركون يسمعونه فيبهتون ، وتظل أعناقهم له خاضعين.
فلا سبيل إلى تحدي إشعاع الحضرة ، وما نظم من شاعر ، وما دبجت يراعة ناثر ، ولا صدر من ألحان إلا كان النتاج من إشعاع الحضرة ، ولهذا قسمت الخلاقون فريقين فريقا خصوا بالإبداع وأوتوا هباته ، وفريقا كانوا دون درجة الإبداع على درجات ، وكان آخرهم فريق المحجوبين الذين يحاولون ركوب سور الحضرة ومحاكاة المبدعين فإذا النتاج عقيم سقيم لا حياة فيه ، ولا تنفعل له النفوس والقلوب.
٩٠ ، ٩٤ ـ (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤))
[الإسراء : ٩٠ ، ٩٤]
أكثر الناس لا يؤمنون بأن يظهر منهم نبي يوحى إليه ، وتكشف له أستار الغيوب ، فيكون بصره حديدا ، ويكون ريسا يشرع ويهدي ، ويفصل الكلام في الحلال والحرام ، ويعلمهم التوحيد ووجود الله وآيات الله وقدرته ولقد طالب الناس النبي بالمعجزة علما أن المعجزة لا تقدم ولا تؤخر وقال عارف : يستحي الصوفي من إظهار كراماته كما تستحي المرأة من طمثها ، وأي دليل على وجود الله وقدرته أكبر من هذا الوجود العياني نفسه؟ ولماذا يطلب الإنسان المعجزة ، والمعجزة خرق القانون الكوني وإظهار ما هو غير عادي وغير مألوف؟ وألحت الفلاسفة قدامى ومحدثون على القول : إن ما في الكون من نظام بديع محكم كامل متكامل هو خير دليل على وجود الصانع ، أما الأنبياء فلكم شهد التاريخ أنبياء كشفت لهم الحجب ،