أن النفس الكلية لا يمكن أن تكون مصدر إشعاع هذه العلوم ... هذا ما يقوله أعداء علماء التوحيد الذين يأبون إلا أن يكون الوحي قد انقضى زمانه ، وأن الله أو روحه الأمين لم يعد يوحي إلى أحد ، ناسين أو متناسين قوله صلىاللهعليهوسلم : (إن الله ليبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) ، وقوله : (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) ، وقوله : (واشوقاه إلى أخوتي الذين يأتون من بعدي ، هؤلاء أنبياء لا أولياء) ، وعلق ابن عربي على الحديث قائلا : يريد بذلك نبوة القرب والإعلام والحكم الإلهي لا نبوة التشريع ، لأن نبوة التشريع انقطعت بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، فهؤلاء متنبئون بعلوم الأنبياء من غير واسطة.
٢٩ ، ٣٢ ـ (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢))
[مريم : ٢٩ ، ٣٢]
الملاحظ في الآيات ورود ذكر عبد الله الذي يذكر بالعبد الصالح الذي لقيه موسى عند مجمع البحرين ، ويقول الإمام الغزالي : من اطلع على كنه حقيقة الملكوت انكشف له حقائق أمثلة القرآن على يسر ، فما ورد في القرآن من أمثلة لها تأويل واحد ، وعبد الله هو الولادة المعنوية التي سبق أن تحدثنا عنها ، وكما قال عبد الكريم الجيلي : فالولادة من البطن ، والبطن الباطن ، فالولادة باطنية ، وقلنا : مريم النفس الكلية التي تطهرت واصطفيت ، فالنفس إذن تلد الغلام الذي هو عبد الله ، والذي هو من روح الله ، والذي سينطق بالعلم الإلهي لأنه هو ممثل العلم الإلهي نفسه ... والإشارة إلى علم العارف الجديد الذي ينقله من مقام إلى مقام ، والتاريخ يقص علينا كيف كان النبي صلىاللهعليهوسلم إنسانا عاديا يتاجر ويتنقل مع القوافل بين الحجاز والشام إلى أن هبط عليه الوحي فكان ما كان من أمره ، واحتل بالتالي مكانة ما تزال أعناق العلماء لها خاضعين ، ولقد كان جلال الدين الرومي فقيها يدرس الفقه ، فإذا هو بعد الاصطفاء والإجتباء والتعليم الإلهي يصير شاعرا ملهما وموحدا صوفيا ربانيا أتى بالعجب العجاب من الأشعار ، وكذلك كان الإمام الغزالي أستاذا يدرس في المدرسة النظامية ببغداد ، فإذا به يهجر التدريس وأصحابه وأهله ، ويهاجر إلى الشام ، وينتقل بين دمشق والقدس بضع سنين ، حتى إذا أتم تعليمه على الحق سبحانه عاد إلى الناس بعلمه الجديد ، وهو علم حير الناس إلى زماننا هذا ، ويكفي الغزالي فخرا أن يكون الفيلسوف الموحد الأول الذي حد للعقل حدوده ، وقال إن وراء العقل فلكا آخر أعلى وأرقى وأعلم هو فلك الإلهام والوحي والعلم اللدني ، ويكفي الغزالي فخرا أن يكون قد سبق الفيلسوف كانط بألف سنة حين جعل الأخلاق أساسا يشيد عليها صرح العلم ، وأنه لا علم بالله بلا أخلاق ، وأن السبيل إلى معرفة الله هو جلو القلب لا تكريس العقل ومعلوماته لإثبات وجود الله.