التنصيص على من عينه للإمامة وجعله أولى بالناس من أنفسهم تعجيل للفتنة بين المسلمين وتفريق كلمتهم ، فيتسلط بذلك الكفار وأهل الردة عليهم ، وينهدم أساس الإسلام ، وينقلع دعائم الدين ، وذلك لأن الراغبين في الإمامة والطامعين في الملك والخلافة قد علموا من مرضه صلىاللهعليهوآلهوسلم وإخباره تصريحا وتلويحا في غير موقف بأنه قد دنى أجله ولا يبرأ من مرضه ، فوطنوا أنفسهم لإلقاء الشبهة بين المسلمين لو كتب الكتاب وأكد الوصية ، بأنه كان على وجه الهجر والهذيان ، فيصدقهم الذين في قلوبهم مرض ، ويكذبهم المؤمنون (١) بأن كلامه ليس إلا وحيا يوحى ، فيقوم فيهم المحاربة والقتال وينتهي الحال إلى استيصال أهل الإيمان وظهور أهل الشرك والطغيان ، فاكتفى صلىاللهعليهوآلهوسلم بنصه يوم الغدير وغيره ، وقد بلغ الحكم وأدى رسالة ربه كما أمره بقوله : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) (٢) فلم يكن في ترك الكتابة تقصير في التبليغ والرسالة ، وإنما منعت الطائفة من الأمة لشقاوتهم ذلك الفعل ، وسدوا باب الرحمة ، فضلوا عن سواء الصراط وأضلوا كثيرا : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (٣)
الثاني : أن ما يظهر كلامه ـ من أن استفهامهم كان لاستعلام أن الأمر على وجه العزم ، أو رد الأمر إلى اختيارهم ـ مردود ، بأن قولهم ما شأنه : أهجر؟ استفهموه؟ لا يفهم منه من له أدنى فطانة ، إلا أن هذا الاستفهام عبارة عن استعلام أن كلامه ذلك كان من الهجر وكلام المرضى والهذيان ، أو هو كلام صحيح ، لا أن أمره كان على وجه العزم أو الرد إلى الاختيار ، وهو واضح.
وأما ما علل به الكف من صواب رأي عمر ، ففيه أنه ليس في الكلام ما يدل على تصويب رأي عمر ، فإن قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الرواية الثالثة من
__________________
(١) في ( ك ) نسخة بدل : الموقنون.
(٢) المائدة : ٦٧.
(٣) الشعراء : ٢٢٧.