فقال لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما فيها الحق التي بينهما لا يعلمها إلا العالم أو من علمها إياه العالم.
______________________________________________________
قوله : التي بينهما ، مبتدأ « لا يعلمها » خبره ، أشار عليهالسلام إلى دقة المنزلة بين المنزلتين وغموضها ، كما يظهر لمن تأمل فيها ، فإنها أصعب المسائل الدينية ، وقد تحير فيها العلماء من كل فرقة ، قال إمامهم الرازي : حال هذه المسألة عجيبة فإن الناس كانوا فيها مختلفين أبدا بسبب أن ما يمكن الرجوع إليه فيها متعارضة متدافعة ، فمعول الجبرية على أنه لا بد لترجيح الفعل على الترك من مرجح ليس من العبد ، ومعول القدرية على أن العبد لو لم يكن قادرا على فعله لما حسن المدح والذم والأمر والنهي ، وهما مقدمتان بديهيتان.
ثم من الدلائل العقلية اعتماد الجبرية على أن تفاصيل أحوال الأفعال غير معلومة للعبد ، واعتماد القدرية على أن أفعال العباد واقعة على وفق قصودهم ودواعيهم وهما متعارضان ، ومن الإلزامات الخطابية أن القدرة على الإيجاد كما لا يليق بالعبد الذي هو منبع النقصان ، فإن أفعال العباد يكون سفها وعبثا فلا يليق المتعالي عن النقصان ، وأما الدلائل السمعية فالقرآن مملوء مما يوهم بالأمرين ، وكذا الآثار وأن أمة من الأمم لم تكن خالية من الفرقتين ، وكذا الأوضاع والحكايات متدافعة من الجانبين ، حتى قيل : إن وضع النرد على الجبر ووضع الشطرنج على القدر ، إلا أن مذهبنا أقوى بسبب أن القدح في قولنا لا يترجح الممكن إلا بمرجح [ لا ] يوجب انسداد باب إثبات الصانع.
ونحن نقول : الحق ما قال بعض أئمة الدين : أنه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ، وذلك لأن مبني المبادئ القريبة لأفعال العبد على قدرته واختياره ، والمبادئ البعيدة على عجزه واضطراره ، فإن الإنسان مضطر في صورة مختار ، كالقلم في يد الكاتب ، والوتد في شق الحائط ، وفي كلام بعض العقلاء : قال الحائط للوتد : لم تشقني؟ قال : سل من يدقني « انتهى » وإنما أوردت كلامه لبيان حيرتهم واعترافه بالأمر بين الأمرين ، وإن لم يبين معناه على وجه يرفع الإشكال من البين.