أنه عرفه بغيره وإنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره ليس بين الخالق والمخلوق شيء والله خالق الأشياء لا من شيء كان
______________________________________________________
أقول : لا يخفى أن هذا الوجه وما أوردته سابقا من الاحتمالات التي سمحت بها قريحتي القاصرة لا يخلو كل منها من تكلف ، وقد قيل فيه وجوه أخر أعرضت عنها صفحا ، لعدم موافقتها لأصولنا ، والأظهر عندي أن هذا الخبر موافق لما مر ، وسيأتي في كتاب العدل أيضا من أن المعرفة من صنعه تعالى وليس للعباد فيها صنع ، وأنه تعالى يهبها لمن طلبها ولم يقصر فيما يوجب استحقاق إفاضتها ، والقول بأن غيره تعالى يقدر على ذلك نوع من الشرك في ربوبيته وإلهيته ، فإن التوحيد الخالص هو أن يعلم أنه تعالى مفيض جميع العلوم والخيرات ، والمعارف والسعادات كما قال تعالى :
« ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ » (١) فالمراد بالحجاب إما أئمة الضلال وعلماء السوء الذين يدعون أنهم يعرفونه تعالى بعقولهم ولا يرجعون في ذلك إلى حجج الله تعالى ، فإنهم حجب يحجبون الخلق عن معرفته وعبادته تعالى ، فالمعنى أنه تعالى إنما يعرف بما عرف نفسه للناس لا بأفكارهم وعقولهم ، أو أئمة الحق أيضا فإنه ليس شأنهم إلا بيان الحق للناس فأما إفاضة المعرفة والإيصال إلى البغية فليس إلا من الحق تعالى كما قال سبحانه : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ » (٢) ويجري في الصورة والمثال ما مر من الاحتمالات ، فقوله عليهالسلام : ليس بين الخالق والمخلوق شيء ، أي ليس بينه تعالى وبين خلقه حقيقة أو مادة مشتركة حتى يمكنهم معرفته من تلك الجهة ، بل أوجدهم لا من شيء كان ، ويؤيد هذا المعنى ما ذكره في التوحيد تتمة لهذا الخبر : والأسماء غيره والموصوف غير الواصف ، فمن زعم أنه يؤمن بما لا يعرف فهو ضال عن المعرفة ، لا يدرك مخلوق شيئا إلا بالله ، ولا يدرك معرفة الله إلا بالله ، والله خلو من خلقه وخلقه خلو منه ، وإذا أراد شيئا كان كما أراد بأمره من غير نطق ، لا ملجأ لعباده مما قضى ، ولا حجة لهم فيما ارتضى
__________________
(١) سورة النساء : ٧٩.
(٢) سورة القصص : ٥٦.