المعتصم فى البروج والحصون وهو فى غضارة العيش فلا عذر لكم أيها المثبطون المبطئون ولما ذا تختارون لأنفسكم الحقير على العظيم؟ ولما ذا لا تدافعون عن الحق وتمنعون الشر أن يفشو حتى تستحقوا مرضاة الله وسعادة الآخرة؟ ولما ذا تكرهون القتال وتجبنون وتخافون الناس وتتمنون البقاء ، أليس هذا بضعف فى الدين وركّة فى العقل وخور فى العزيمة تؤاخذون بها وتقوم عليكم بها الحجة.
ثم ذكر سبحانه شأنا آخر من شئونهم أشد دلالة على الحمق وضعف العقل ومرض القلب فقال (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي إن أصابهم رخاء ونعمة قالوا إن الله أكرمهم بها عناية بهم وليس لهداية الرسول أثر فى ذلك ، وإن أصابهم شدة وجهد قالوا هذا من شؤم محمد علينا ، وهذه مقالة اليهود والمنافقين حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأصابهم القحط والجدب ، وهذا زعم باطل منهم ، فكل من النعمة والبلية من عند الله خلقا وإيجادا يقع فى ملكه بحسب السنن التي وضعها والأسباب والمسببات التي أوجدها (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي ماذا أصاب هؤلاء القوم وماذا دهاهم فى عقولهم؟ فهم لا يعقلون حقيقة ما يلقونه من الحديث ولا ما يلقى إليهم ، وإنما يأخذون بما يطفو من المعنى بادىء الرأى دون تمحيص ولا تحقيق ، وإذا كانوا قد حرموا هذا الفقه من كل حديث ، فما أحراهم أن يحرموه من حديث يبلغه الرسول عن ربه فى الإخبار عن نظم الاجتماع وارتباط الأسباب بالمسببات ، وعما أحاط الله به المصطفين الأخيار من وافر الفضل وخصهم به من جميل الرعاية ، فتلك الحكم العالية لا تنال إلا بفضل الروية وطول الأناة والتدبير ، ومن وصل إلى هذا القدر من الفهم لا يقول إن السيئة لا تقع بشؤم أحد ، بل ينسب كل شىء إلى سببه.
وفى الآية إيماء إلى أن حصيف الرأى يجب أن يطلب فقه القول دون الأخذ بالجمل والظواهر ، إذ من قنع بذلك بقي فى عماية ويظل طوال دهره غرّا جاهلا بما يحيط به من نظم هذا العالم.