وبعد أن بين سبحانه لرسوله أن الناس فى شأن القرآن فريقان ، فريق فسدت فطرتهم ولم يبق لديهم استعداد لهديه ، ولا للعلم بما فيه من تصريف الآيات ، ومن ثم كان نصيبهم منه الجحود والإنكار ، وفريق آخر اهتدى به وعمل بما فيه ـ أمره أن يتبع ما أوحى إليه من ربه بالبيان له والعمل به فقال :
(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي اتبع ما أوحى إليك لتربى نفسك وتكون إماما لأبناء جنسك ، فإن الاقتداء لا يتم إلا بمن يعمل ، بما يعمله ، ويأتمر بما يأمر ؛ ثم قرن ذلك باعتقاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ، فالخالق المرّبى للأشباح بما أنزل من الرزق ، وللأرواح بما أنزل من الوحى هو المعبود الواحد الذي لا شريك له المجازى على الأعمال ، التي لا تقبل شفاعة ولا فداء.
ثم أمره بعدئذ بالإعراض عن المشركين بألا يبالى بإصرارهم على الشرك ، ولا بمثل قولهم درست ، لأن الحق يعلو متى ظهر بالقول والعمل مع الإخلاص ، ولا يضره الباطل بتزيينه بزخارف الأقوال ولا بالانكباب على خرافات الأعمال ؛ ثم هوّن عليه أمر الإعراض عنهم فقال :
(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) أي ولو شاء الله ألا يشركوا لما أشركوا بأن يخلق البشر مؤمنين طائعين بالفطرة كالملائكة ، لكنه خلقهم مستعدين للإيمان والكفر ، والتوحيد والشرك ، والطاعة والفسق ، ومضت سنته بأن يكونوا مختارين فى أعمالهم وفى كسبهم لعلومهم وأعمالهم ، وجعل منها الخير والشر ، وإن كانت غرائزهم وفطرهم كلها خيرا.
(وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي وما جعلناك عليهم حفيظا تحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم عليها وتجازيهم بها ، ولا وكيلا تتولى أمورهم وتتصرف فيها.