لما علم صحة قصدهم وأنهم لا يريدون تعجيزه ولا اقتراح آية ـ دعا الله بهذا الدعاء وناداه بالاسم الكريم الدال على الألوهية والقدرة والحكمة إلى نحو أولئك من صفات الكمال ، ثم باسم الرب الجامع لمعنى الملك والتدبير والتربية والإنعام.
أي يا الله يا مالك أمرنا ومتولى تربيتنا أنزل علينا مائدة سماوية يراها هؤلاء المقترحون بأبصارهم وتتغذي بها أبدانهم ، وتكون عيدا خاصا بنا معشر المؤمنين دون غيرنا بأول من آمن منا وآخر من آمن ، واجعلها علامة من لدنك ترشد القوم إلى صحة دعوتى وصدق نبوتى ، وارزقنا منها ومن غيرها ما به تتغذى أجسامنا ، فأنت خير الرازقين ترزق من تشاء بغير حساب.
ومن محاسن هذا الدعاء أنه أخر ذكر الفائدة المادية للمائدة عن ذكر فائدتها الدينية الروحية ، بعكس ما فعله الحواريون ، إذ قدموا الأكل على غيره من الفوائد الأخرى.
(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي وعد الله عيسى بإنزال المائدة مرة أو مرارا لكنه رتب شرطا على هذا الوعد فقال :
(فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي إن من يكفر منكم بعد نزول هذه الآية التي اقترحتموها ، وجاءت بطريق لا لبس فيه ولا شك ، فإنى أعذبه عذابا شديدا لا أعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين ، لأن عقاب المخطئ أو الكافر يكون بقدر تأثير الخطيئة أو الكفر فى نفسه ، والبعد فيه عن الشبهة والعذر ، وأي شبهة أو عذر لمن يرى الآيات من رسوله تترى ، ثم يقترح آية خاصة تشترك فى العلم بها حواسه جميعا وينتفع بها فى دنياه قبل آخرته ، فيعطى ما طلب ، ثم ينكص بعد ذلك كله على عقبيه ويكون من الكافرين.
وللعلماء فى الطعام الذي نزل فى المائدة آراء : فقيل هو خبز وسمك ، وقيل خبز ولحم ، وقيل كان ينزل عليهم طعاما أينما ذهبوا كما كان ينزل المنّ على بنى إسرائيل كما رواه ابن جرير عن ابن عباس.