الصغير حتى يرى أكبر من حقيقته بألوف الأضعاف ، فأمكن أن نعرف أن فى الأرض أنواعا من النسم الخفية تدخل الأجسام من خراطيم البراغيث أو البعوض أو القمل ، أو مع الماء والطعام ، وتنمو فيها بسرعة مدهشة فتولد ألوف الألوف ، ومتى تكاثرت ولدت الأمراض والأوبئة القاتلة ، ولو كان قد قيل : مثل هذا لأكبر أطباء لمصريين القدامى أو للهنود أو اليونان أو العرب لغدّوه نوعا من الشعوذة والسحر أو ضربا من التخيل والجنون.
وإذا كان هذا الاتصال الخفي قد ثبت فى الأجساد بعد آلاف السنين فلا عجب أن يثبت مثل ذلك فى الأرواح ، وأمرها أخفى من الأجساد ، والكتاب والسنة مليئان بهذا ، فقد جاء فى الحديث ما يدل على وجود هذه الجراثيم (الميكروبات) التي لم يثبتها الطب إلا حديثا ، وكفى بهذا معجزة لمحمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم ودلالة على أن الله أوحى إليه بنظريات لم يثبتها العلم إلا بعد ذلك بأربعة عشر قرنا ، فقد روى أنه صلّى الله عليه وسلم قال : «تنكّبوا الغبار فإن منه تكون النسمة» وقال عمرو بن العاص : اتقوا غبار مصر فإنه يتحول فى الصدر إلى نسمة ، ولو أن هذا الأثر قيل لغير المتمدينين وفسر لهم هذا التفسير قبل اختراع المناظير لكان فتنة للناس وزادهم نفورا مما جاء به الرسول ، ولكن فى كل يوم يثبت العلم نظريات جديدة تكون نعم العون على صدق ما جاء به الرسول ، وتلقى نورا على الناس ينظرون به تلك الدرر الغوالي المبثوثة فى القرآن والحديث وآثار الصدر الأول من المسلمين.
(وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي ووصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذي حددته لنا وهو يوم البعث والجزاء ، وقد اعترفنا بذنوبنا فاحكم فينا بما تشاء وأنت الحكم العدل.
ومقصدهم من هذا الإخبار إظهار الحسرة والندامة على ما كان منهم من التفريط فى الدنيا وتفويض الأمر إلى ربهم العليم بحالهم ، ولم يذكر هنا قول المتبوعين من الشياطين وحكاه فى آي أخرى فقال فى الفريقين «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ