ودرَّ حَلَبُ الأيام (١) ، وخضعت نُعَرَة الشرك (٢) ، وسكنْت فَوَرة الإفك (٣) ، وخمدت نيران الكفر (٤) ، وهدأت دعوة الهرج (٥) ، واستوسق نظام الدين (٦) ، فأنّى جُرتم بعد البيان (٧) ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام (٨) ، وأشركتم بعد الإيمان ؟ « ألا تُقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمُّوا بإخراج الرسول وهم بدأُوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق ان تخشوه إن كنتم مؤمنين (٩) » (١٠).
__________________
(١) در اللبن : جريانه وكثرته. والحلب بالفتح : استخراج ما في الضرع من اللبن ، وبالتحريك : اللبن المحلوب ، والثاني اظهر للزوم ارتكاب تجوز في الاستناد ، او في المسند إليه على الأوّل.
(٢) والنعرة بالنون والراء المهملتين مثال همزة : الخيشوم والخيلاء والكبر او بفتح النون من قولهم نعر العرق بالدم أي فار. فيكون الخضوع بمعنى السكون ، او بالغين المعجمة من نغرت القدر أي فارت. وقال الجوهري « نغر الرجل ـ بالكسر ـ أي اغتاض. قال الاصمعي : هو الذي يغلي جوفه من الغيظ. وقال ابن السكيت : يقال : ظل فلان يتنعر على فلان أي يتذمر عليه ». وفي اكثر النسخ بالثاء المثلثة المضمومة والغين المعجمة وهي نقرة النحر بين الترقوتين. فخضوع ثغرة الشرك كناية عن محقه وسقوطه كالحيوان الساقط على الأرض ، نظيره قول امير المؤمنين ـ صلوات الله عليه وسلامه عليه ـ : « انا وضعت كلكل العرب » أي صدورهم.
(٣) الافك بالكسر : الكذب وفورة الافك : غليانه وهيجانه.
(٤) خمدت النار : أي سكن لهبها ولم يطفاً جمرها. ويقال : همدت ـ بالهاء ـ اذا طفي جمرها. وفيه اشعار بنفاق بعضهم وبقاء مادة الكفر في قلوبهم. وفي رواية ابن ابي طاهر : « وباخت نيران الحرب » قال الجوهري : « باخ الحر والنار والغضب والحمى أي سكن وفتر ».
(٥) هدأت أي ، سكنت ، والهرج ، الفتنة والاختلاط. وفي الحديث : الهرج القتل.
(٦) استوسق أي اجتمع وانضم ، من الوسق بالفتح وهو ضم الشيء إلى الشيء ، واتساق الشيء : انتظامه. وفي الكشف : « فناويتم العرب ، وبادهتم الامور ( إلى قولها عليهاالسلام ) حتى دارت لكم بنا رحى الاسلام ، ودر حلب البلاد وخبت نيران الحرب » يقال : بدهه بأمر أي استقبله به ، وبادهه : فاجأه.
(٧) كلمة « انى » ظرف مكان بمعنى « أين » وقد يكون بمعنى « كيف » أي من اين حرتم وما كان منشأه ؟ و « جرتم » اما بالجيم من الجور وهو الميل عن القصد والعدول عن الطريق ، أي لماذا تركتم سبيل الحق بعد ما تبين لكم. او بالحاء لمهملة المضمومة من الحور بمعنى الرجوع او النقصان ، يقال : « نعوذ بالله من الحور بعد الكور » أي من النقصان بعد الزيادة ، واما بكسرها من الحيرة.
(٨) النكوص : الرجوع إلى الخلف.
(٩) التوبة : ١٣.
(١٠) نكث العهد ، بالفتح : نقضه والإيمان جمع يمين وهو القسم. المشهور بين المفسرين ان الآية نزلت في اليهود الذين نقضوا عهودهم ، وخرجوا مع الاحزاب ، وهموا باخراج الرسول من المدينة ، وبدأوا بنقض العهد والقتال. وقيل : نزلت في مشركي قريش وأهل مكة حيث نقضوا ايمانهم التي عقدوها مع الرسول والمؤمنين على ان لا يعاونوا عليهم اعدائهم ، فعاونوا بني بكر على خزاعة ، وقصدوا اخراج الرسول صلىاللهعليهوآله من مكة حين تشاوروا بدار الندوة وأتاهم ابليس بصورة شيخ نجدي ـ إلى اخر ما مر في القصة ـ ، فهم بدأوا بالمعاداة والمقاتلة في هذا الوقت ،