ولكن بمجرّد أن واجهوا محكّ التجربة ، ودخلوا كورة الامتحان المشتعلة ، وتحقّق طلبهم ببعثة نبيّ منهم ، تبيّن أنّهم من نفس تلك الطينة ، حيث أشار القرآن إلى ذلك بعد تلك الجملة الاولى من الآية بالقول : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً).
هذا التعبير يدلّل على أنّهم كانوا قبل بعثة النّبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وعلى خلاف ما يدّعون ـ بعيدين عن دين الله سبحانه وتعالى ، فقد كانت حنيفية إبراهيم معروفة بينهم ، إلّا أنّهم لم يكونوا يحترمونها ، كذلك لم يكن لديهم أي اعتبار لما كان يمليه العقل من تصرفات. وبقيام النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ونيله من عقائدهم وأعرافهم وعصبيتهم الجاهلية ، ووقوع مصالحهم غير المشروعة في الخطر ، زادت الفاصلة بينهم وبين الحقّ ، نعم كانوا بعيدين عن الحقّ ، لكنّهم ازدادوا بعدا عن الحقّ بعد بعثة النّبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الآية التالية توضيح لما في الآية السابقة ، تقول : إنّ بعدهم عن الحقّ لأنّهم سلكوا طريق الاستكبار في الأرض ، ولم تكن لديهم أهلية الخضوع لمنطق الحقّ (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) (١) وكذلك لأنّهم كانوا يحتالون ويسيئون (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) (٢).
ولكن (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).
جملة «لا يحيق» : الفعل (يحيق) من (حاق) بمعنى نزل وأصاب ، والجملة معناها «لا ينزل ولا يصيب ولا يحيط» إشارة إلى أنّ الاحتيال قد يؤدّي ـ مؤقتا ـ
__________________
(١) أغلب المفسّرين قالوا بأنّ «استكبارا» هو «مفعول لأجله» من حيث التركيب النحوي وهي بيان لعلّة «النفور» وابتعادهم عن الحقّ ، و «مكر السيء» عطف على «استكبارا» في حين أنّ البعض الآخر قال : إنّها عطف على «نفورا».
(٢) «مكر السيئ» إضافة (للجنس) إلى (النوع) ، كما هو نقول : «علم الفقه» لأنّ (مكر) بمعنى (البحث عن حلّ) سواء كان خيرا أو شرّا ، لذا فإنّ هذه الكلمة تطلق كصفة لله سبحانه (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) آل عمران ـ ٥٤ ، ولكن «السيء» تحصر المكر في نوع خاصّ منه ، وهو الاحتيال.