فمن لطيف ذلك ونادره قول البحتري : [من الكامل]
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم |
|
كرما ، ولم تهدم مآثر خالد (١) |
الأصل لا محالة : لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها ، ثم حذف ذلك من الأوّل استغناء بدلالته في الثاني عليه ، ثمّ هو على ما تراه وتعلمه من الحسن والغرابة ، وهو على ما ذكرت لك من أن الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف ولا يظهر إلى اللفظ. فليس يخفى أنك لو رجعت فيه إلى ما هو أصله فقلت : «لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها» ، صرت إلى كلام غثّ ، وإلى شيء يمجّه السمع ، وتعافه النفس. وذلك أن في البيان ، إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له ، أبدا لطفا ونبلا لا يكون إذا لم يتقدّم ما يحرّك.
وأنت إذا قلت : «لو شئت» ، علم السّامع أنك قد علّقت هذه المشيئة في المعنى بشيء ، فهو يضع في نفسه أنّ هاهنا شيئا تقتضي مشيئته له أن يكون أو أن لا يكون. فإذا قلت : «لم تفسد سماحة حاتم» ، عرف ذلك الشيء ، ومجيء «المشيئة» بعد «لو» وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معدّاة إلى شيء ، كثير شائع ، كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام : ٣٥] ، و (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [النحل : ٩] ، والتقدير في ذلك كله على ما ذكرت. فالأصل : لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم ، ولو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم ، إلا أن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفا.
وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن ، وذلك نحو قول الشاعر : [من الطويل]
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته |
|
عليه ، ولكن ساحة البصر أوسع (٢) |
فقياس هذا لو كان على حدّ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام : ٣٥] أن يقول : «لو شئت بكيت دما» ، ولكنه كأنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى
__________________
(١) البيت في ديوانه. السماحة : الكرم. حاتم : هو الطائي المعروف. خالد : هو ابن أصمع النبهاني الذي نزل عليه امرؤ القيس. والبيت في الإيضاح (١١٢).
(٢) البيت للخريمي ، أبو يعقوب إسحاق بن حسان شاعر عباسي من الموالي ، والبيت من قصيدة يرثي بها أبا الهيذام عامر بن عمارة بن خريم أمير عرب الشام ، وقائد المضرية في الفتنة بين القيسية واليمنية أيام الرشيد ، وهو في الإيضاح (١١٢) ، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات والتنبيهات (٨٢) ، وذكر تمام البيت :
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع