صار الثاني كأنّه شيء غير الأوّل ، وجرى مجرى أن تقول : «لو شئت أن تعطي درهما أعطيت درهمين» ، في أن الثاني لا يصلح أن يكون تفسيرا للأوّل.
واعلم أن هذا الذي ذكرنا ليس بصريح : «أكرمت وأكرمني عبد الله» ، ولكنه شبيه به في أنه إنّما حذف الذي حذف من مفعول «المشيئة» و «الإرادة» ، لأنه الذي يأتي في جواب «لو» وأخواتها يدلّ عليه.
وإذا أردت ما هو صريح في ذلك ، ثمّ هو نادر لطيف ينطوي على معنى دقيق وفائدة جليلة ، فانظر إلى بيت البحتري : [من الخفيف]
قد طلبنا فلم نجد لك في السّؤ |
|
دد والمجد والمكارم مثلا (١) |
المعنى : قد طلبنا لك مثلا ؛ ثم حذف ، لأن ذكره في الثاني يدلّ عليه ، ثمّ إنّ للمجيء به كذلك من الحسن والمزيّة والرّوعة ما لا يخفى. ولو أنه قال : «قد طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده» ، لم تر من هذا الحسن الذي تراه شيئا. وسبب ذلك أن الذي هو الأصل في المدح والغرض بالحقيقة ، هو نفي الوجود عن «المثل» ، فأما «الطّلب» ، فكالشيء يذكر ليبنى عليه الغرض ويؤكّد به أمره. وإذا كان هذا كذلك ، فلو أنه قال : «قد طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده» ، لكان يكون قد ترك أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ «المثل» ، وأوقعه على ضميره. ولن تبلغ الكناية مبلغ التّصريح أبدا.
ويبيّن هذا ، كلام ذكره أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان والتبيين (٢) ، وأنا أكتب لك الفصل حتى تستبين الذي هو المراد ، قال :
«والسّنة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب ويقصّر المجيب ، ألا ترى أن قيس ابن خارجة بن سنان لمّا ضرب بسيفه مؤخرة راحلة الحاملين في شأن حمالة داحس والغبراء وقال : ما لي فيها أيّها العشمتان (٣)؟ قالا : بل ما عندك؟ قال : عندي قرى كلّ نازل ، ورضى كلّ ساخط ، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب ، آمر فيها بالتواصل ، وأنهى فيها عن التقاطع قالوا : فخطب يوما إلى الليل ، فما أعاد كلمة ولا معنى. فقيل لأبي يعقوب (٤) : هلّا اكتفى بالأمر بالتواصل ، عن النهي عن التقاطع؟ أو
__________________
(١) قاله البحتري في مدح المعتز. اه الديوان (١ / ١٥٦).
(٢) انظر النص في البيان والتبيين ١ / ١١٦.
(٣) العشمة الشيخ الفاني ا. ه القاموس : / عشم / (١٤٦٩).
(٤) وهو الشاعر الخريم الذي تقدم ذكره.