الحالين إثبات انطلاق قد سبق العلم به لزيد فليس الأمر كذلك ، بل بين الكاملين فصل ظاهر.
وبيانه : أنك إذا قلت : «زيد المنطلق» ، فأنت في حديث انطلاق قد كان ، وعرف السامع كونه ، إلّا أنه لم يعلم أمن زيد كان أم من عمرو؟ فإذا قلت : «زيد المنطلق» ، أزلت عنه الشك وجعلته يقطع بأنه كان من زيد ، بعد أن كان يرى ذلك في سبيل الجواز.
وليس كذلك إذا قدّمت «المنطلق» فقلت : «المنطلق زيد» ، بل يكون المعنى حينئذ على أنك رأيت إنسانا ينطلق بالبعد منك ، فلم تثبته ، ولم تعلم أزيد هو أم عمرو ، فقال لك صاحبك : «المنطلق زيد» ، أي هذا الشخص الذي تراه من بعد هو زيد.
وقد ترى الرجل قائما بين يديك وعليه ثوب ديباج ، والرجل ممن عرفته قديما ثم بعد عهدك به فتناسيته ، فيقال لك : «اللابس الديباج صاحبك الذي كان يكون عندك في وقت كذا ، أما تعرفه؟ لشدّ ما نسيت» ، ولا يكن الغرض أن يثبت له لبس الديباج ، لاستحالة ذلك ، من حيث أن رؤيتك الديباج عليه تغنيك عن إخبار مخبر وإثبات مثبت لبسه له.
فمتى رأيت اسم فاعل أو صفة من الصفات قد بدئ به ، فجعل مبتدأ ، وجعل الذي هو صاحب الصفة في المعنى خبرا ، فاعلم أنّ الغرض هناك ، غير الغرض إذا كان اسم الفاعل أو الصفة خبرا ، كقولك : «زيد المنطلق».
واعلم أنه ربّما اشتبهت الصورة في بعض المسائل من هذا الباب ، حتّى يظنّ أن المعرفتين إذا وقعتا مبتدأ وخبرا ، لم يختلف المعنى فيهما بتقديم وتأخير. ومما يوهم ذلك قول النحويين في «باب كان» : «إذا اجتمع معرفتان كنت بالخيار في جعل أيّهما شئت اسما ، والآخر خبرا ، كقولك : «كان زيد أخاك» و «كان أخوك زيدا» ، فيظن من هاهنا أن تكافؤ الاسمين في التّعريف يقتضي أن لا يختلف المعنى بأن تبدأ بهذا وتثنّي بذاك ، وحتى كأنّ الترتيب الذي يدّعى بين المبتدأ والخبر وما يوضع لهما من المنزلة في التقدّم والتأخّر ، يسقط ويرتفع إذا كان الجزآن معا معرفتين.
ومما يوهم ذلك أنك تقول : «الأمير زيد» ، و «جئتك والخليفة عبد الملك». فيكون المعنى على إثبات الإمارة لزيد ، والخلافة لعبد الملك ، كما يكون إذا قلت : «زيد الأمير» و «عبد الملك الخليفة» ، وتقوله لمن لا يشاهد ، ومن هو غائب عن حضرة الإمارة ومعدن الخلافة.