لو لا أنّ اختلاف صلة المصدر تقتضي اختلافه في نفسه ، وأن يحدث فيه انقسام وتنوّع ، لما كان لهذا الكلام معنى ، ولكان في الاستحالة كقولك : و «الطعن غير الطعن». فقد بان إذن أنه إنما كان كلّ واحد من الطعنين جنسا برأسه غير الآخر ، بأن كان هذا في الهيجاء ، وذاك في الميدان.
وهكذا الحكم في كل شيء تعدّى إليه «المصدر» وتعلّق به. فاختلاف مفعولي المصدر يقتضي اختلافه ، وأن يكون المتعدّي إلى هذا المفعول غير المتعدّي إلى ذاك. وعلى ذلك تقول : «ليس إعطاؤك الكثير كإعطائك القليل» ، وهكذا إذا عدّيته إلى الحال كقولك : «ليس إعطاؤك معسرا كإعطائك موسرا» و «ليس بذلك وأنت مقلّ ، كبذلك وأنت مكثر».
وإذ قد عرفت هذا من حكم «المصدر» ، فاعتبر به حكم الاسم المشتقّ منه.
وإذا اعتبرت ذلك علمت أن قولك : «هو الوفيّ حين لا يفي أحد» ، و «هو الواهب المائة المصطفاة» (١) ، وقوله : [من الخفيف]
وهو الضّارب الكتيبة ، والطّع |
|
نة تغلو ، والضّرب أغلى وأغلى (٢) |
وأشباه ذلك كلّها أخبار فيها معنى الجنسية ، وأنها في نوعها الخاص بمنزلة الجنس المطلق إذا جعلته خبرا فقلت : «أنت الشجاع».
وكما أنت لا تقصد بقولك : «أنت الشّجاع» إلى شجاعة بعينها قد كانت وعرفت من إنسان ، وأردت أن تعرف ممن كانت ، بل تريد أن تقصر جنس الشجاعة عليه ، ولا تجعل لأحد غيره فيه حظّا ، كذلك لا تقصد بقولك : «أنت الوفيّ حين لا يفي أحد» إلى وفاء واحد. كيف؟ وأنت تقول : «حين لا يفي أحد».
وهكذا محال أن يقصد في قوله : «هو الواهب المائة المصطفاة» ، إلى هبة واحدة ، لأنه يقتضي أن يقصد إلى مائة من الإبل قد وهبها مرة ، ثم لم يعد لمثلها.
ومعلوم أنه خلاف الغرض ، لأنّ المعنى أنه الذي من شأنه أن يهب المائة أبدا ، والذي يبلغ عطاؤه هذا المبلغ ، كما تقول : «هو الذي يعطي مادحه الألف والألفين» ، وكقوله : [من الرجز]
__________________
(١) المصطفاة : تعقيب على بيت للأعشى.
(٢) البيت للمتنبي في ديوانه (٢ / ١٦٢) ، ويروى في الديوان : «أغلى وأغلى» بدل : «أغلى وأعلى» ، والبيت من قصيدة طويلة في رثاء أخت سيف الدولة الصغرى ويسليه ببقاء الكبرى. تغلو : من غلاء الثمن ، أغلى وأغلى للتأكيد ، أي : أنه يأتي الضرب بالسيف عند ما يخاف غير أنه يطعن بالرمح.