حسنة إلّا وهو مفتاحها ؛ ولا محمدة إلّا ومنه يتّقد مصباحها ، هو (١) الوفيّ إذا خان كلّ صاحب ، والثقة إذا لم يوثق بناصح ، لو لاه لما بان الإنسان من سائر الحيوان إلّا بتخطيط صورته ، وهيئة جسمه وبنيته ، لا ، ولا وجد إلى اكتساب الفضل طريقا ، ولا وجد بشيء من المحاسن خليقا. ذاك لأنّا وإن كنّا لا نصل إلى اكتساب فضيلة إلّا بالفعل ، وكان لا يكون فعل إلّا بالقدرة ، فإنّا لم نر فعلا زان فاعله وأوجب الفضل له ، حتى يكون عن العلم صدره (٢) ، وحتى يتبيّن ميسمه (٣) عليه وأثره. ولم نر قدرة قطّ كسبت صاحبها مجدا وأفادته حمدا ، دون أن يكون العلم رائدها فيما تطلب ، وقائدها حيث يؤمّ ويذهب ، ويكون المصرّف لعنانها (٤) ؛ والمقلّب لها في ميدانها. فهي إذن مفتقرة في أن تكون فضيلة إليه ، وعيال في استحقاق هذا الاسم عليه ، وإذا هي خلت من العلم أو أبت أن تمتثل أمره ؛ وتقتفي أثره ورسمه ، آلت ولا شيء أحشد للذمّ على صاحبها منها ، ولا «شين أشين (٥)» من أعماله لها.
فهذا في فضل العلم لا تجد عاقلا يخالفك فيه ، ولا ترى أحدا يدفعه أو ينفيه. فأما المفاضلة بين بعضه وبعض ، وتقديم فنّ منه على فنّ ، فإنك ترى الناس فيه على آراء مختلفة ، وأهواء متعادية ، ترى كلّا منهم لحبّه نفسه ، وإيثاره أن يدفع النقص عنها ، يقدّم ما يحسن من أنواع العلم على ما لا يحسن ، ويحاول الزّراية (٦) على الذي لم يحظ به ، والطّعن على أهله والغضّ منهم ، ثم تتفاوت أحوالهم في ذلك ، فمن مغمور قد استهلكه هواه ، وبعد في الجور مداه ، ومن مترجّح فيه بين الإنصاف والظلم ، يجور تارة ويعدل أخرى في الحكم ، فأمّا من يخلص في هذا المعنى من الحيف حتى لا يقضي إلّا بالعدل ، وحتى يصدر في كل أمره عن العقل ، فكالشيء الممتنع وجوده. ولم يكن ذلك كذلك ، إلا لشرف العلم وجليل محلّه ، وأنّ محبته مركوزة في الطباع ، ومركّبة في النفوس ، وأن الغيرة عليه لازمة للجبلّة ، وموضوعة في
__________________
(١) أي : العلم.
(٢) وهو نقيض الورد. وهو الطريق إلى الماء للارتواء. اه اللسان مادة / صدر / (٤ / ٤٤٨).
(٣) هو اسم الآلة التي يوسم بها الدواب والجمع مواسم ومياسم. اه اللسان مادة / وسم / (١٢ / ٦٣٦).
(٤) بكسر العين وهو السير الذي تمسك به الداية والجمع أعنّة. اه اللسان مادة / عنن / (١٣ / ٢٩١).
(٥) هو العيب. اه اللسان مادة / شين / (١٣ / ٢٤٤).
(٦) زريت عليه وزرى عليه بالفتح زريا وزراية : عابه وعاتبه. اه الصحاح مادة / زري / (١٤ / ٣٥٦).