ولا شبهة في أن التشبيه بمن في أذنيه وقر أبلغ وآكد في جعله كذلك ، من حيث كان من لا يصحّ منه السمع وإن أراد ذلك ، أبعد من أن يكون لتلاوة ما يتلى عليه فائدة ، من الذي يصحّ منه السمع إلّا أنه لا يسمع ، إمّا اتفاقا وإما قصدا إلى أن لا يسمع. فاعرفه وأحسن تدبّره.
ومن اللطيف في ذلك قوله تعالى : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف : ٣١] ، وذلك أن قوله : «إن هذا إلّا ملك كريم» ، مشابك لقوله : «ما هذا بشرا» ومداخل في ضمنه من ثلاثة أوجه : وجهان هو فيهما شبيه بالتأكيد ، ووجه هو فيه شبيه بالصفة.
فأحد وجهي كونه شبيها بالتأكيد ، هو أنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا ، وإذا كان كذلك كان ، إثبات كونه ملكا تحقيقا لا محالة ، وتأكيدا لنفي أن يكون بشرا.
والوجه الثاني أن الجاري في العرف والعادة أنه إذا قيل : «ما هذا بشرا ، وما هذا بآدميّ» ، والحال حال تعظيم وتعجّب مما يشاهد في الإنسان من حسن خلق أو خلق ، أن يكون الغرض والمراد من الكلام أن يقال إنه ملك ، وأنه يكنى به عن ذلك ، حتى أنه يكون مفهوم اللفظ ، وإذا كان مفهوما من اللفظ قبل أن يذكر ، كان ذكره إذا ذكر تأكيدا لا محالة ، لأنّ حدّ «التأكيد» أن تحقّق باللفظ معنى قد فهم من لفظ آخر قد سبق منك. أفلا ترى : أنه إنّما كان «كلّهم» في قولك : «جاءني القوم كلّهم» تأكيدا من حيث كان الذي فهم منه ، وهو الشمول ، قد فهم بديئا من ظاهر لفظ «القوم» ، ولو أنه لم يكن فهم الشمول من لفظ «القوم» ، ولا كان هو من موجبه ، لم يكن «كلّ» تأكيدا ، ولكان الشمول مستفادا من «كلّ» ابتداء.
وأمّا الوجه الثالث الذي هو فيه شبيه بالصفة ، فهو أنه إذا نفي أن يكون بشرا ، فقد أثبت له جنس سواه ، إذ من المحال أن يخرج من جنس البشر ، ثم لا يدخل في جنس آخر. وإذا كان الأمر كذلك ، كان إثباته «ملكا» تبيينا وتعيينا لذلك الجنس الذي أريد إدخاله فيه ، وإغناء عن أن تحتاج إلى أن تسأل فتقول : «فإن لم يكن بشرا ، فما هو؟ وما جنسه؟» كما أنك إذا قلت : «مررت بزيد الظريف» كان «الظريف» تبيينا وتعيينا للّذي أردت من بين من له هذا الاسم ، وكنت قد أغنيت المخاطب عن الحاجة إلى أن يقول : «أيّ الزيدين أردت؟».
وممّا جاء فيه الإثبات «بإن وإلّا» على هذا الحدّ قوله عزوجل : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [يس : ٦٩] ، وقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ