الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤] ، أفلا ترى أنّ الإثبات في الآيتين جميعا تأكيد وتثبيت لنفي ما نفي؟ فإثبات ما علّمه النبي صلىاللهعليهوسلم وأوحي إليه ذكرا وقرآنا ، تأكيد وتثبيت لنفي أن يكون قد علّم الشعر وكذلك إثبات ما يتلوه عليهم وحيا من الله تعالى ، تأكيد وتقرير لنفي أن يكون نطق به عن هوى.
واعلم أنّه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه : «إنه خفيّ غامض ، ودقيق صعب» إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدقّ وأصعب. وقد قنع الناس فيه بأن يقولوا إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف : «إن الكلام قد استؤنف وقطع عمّا قبله» ، لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك. ولقد غفلوا غفلة شديدة.
وممّا هو أصل في هذا الباب أنك قد ترى الجملة وحالها مع التي قبلها حال ما يعطف ويقرن إلى ما قبله ، ثم تراها قد وجب فيها ترك العطف ، لأمر عرض فيها صارت به أجنبية مما قبلها.
مثال ذلك قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة : ١٥] ، الظاهر كما لا يخفى يقتضي أن يعطف على ما قبله من قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ، وذلك أنه ليس بأجنبيّ منه ، بل هو نظير ما جاء معطوفا من قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ، وقوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] ، وما أشبه ذلك مما يردّ فيه العجز على الصّدر ، ثم إنّك تجده قد جاء غير معطوف ، وذلك لأمر أوجب أن لا يعطف ، وهو أن قوله : «إنما نحن مستهزءون» ، حكاية عنهم أنهم قالوا ، وليس بخبر من الله تعالى ، وقوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، خبر من الله تعالى أنه يجازيهم على كفرهم واستهزائهم. وإذا كان كذلك ، كان العطف ممتنعا ، لاستحالة أن يكون الذي هو خبر من الله تعالى ، معطوفا على ما هو حكاية عنهم ، ولإيجاب ذلك أن يخرج من كونه خبرا من الله تعالى ، إلى كونه حكاية عنهم ، وإلى أن يكونوا قد شهدوا على أنفسهم بأنهم مؤاخذون ، وأن الله تعالى معاقبهم عليه.
وليس كذلك الحال في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) و «مكروا ومكر الله» ، لأن الأول من الكلامين فيهما كالثّاني ، في أنه خبر من الله تعالى وليس بحكاية. وهذا هو العلّة في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة : ١١ ـ ١٢] ، إنما جاء «إنّهم هم المفسدون» مستأنفا مفتتحا «بألا» ، لأنه خبر من الله تعالى بأنّهم