تولّوا بغتة ، فكأن بينا |
|
تهيّبني ، ففاجأني اغتيالا |
فكان مسير عيسهم ذميلا ، |
|
وسير الدّمع إثرهم انهمالا (١) |
قوله : «فكان مسير عيسهم» ، معطوف على «تولّوا بغتة» ، دون ما يليه من قوله : «ففاجأني» ، لأنا إن عطفناه على هذا الذي يليه أفسدنا المعنى ، من حيث أنه يدخل في معنى «كأنّ» ، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون مسير عيسهم حقيقة ، ويكون متوهّما ، كما كان تهيّب البين كذلك.
وهذا أصل كبير. والسبب في ذلك أن الجملة المتوسطة بين هذه المعطوفة أخيرا ، وبين المعطوف عليها الأولى ، ترتبط في معناها بتلك الأولى ، كالذي ترى أنّ قوله : «فكأنّ بينا تهيّبني» ، مرتبط بقوله : «تولوا بغتة» ، وذلك أن الثانية مسبّب والأولى سبب. ألا ترى أن المعنى : «تولوا بغتة فتوهمت أنّ بينا تهيّبني؟» ولا شك أن هذا التوهّم كان بسبب أن كان التّولّي بغتة. وإذا كان كذلك ، كانت مع الأولى كالشيء الواحد ، وكان منزلتها منها منزلة المفعول والظّرف وسائر ما يجيء بعد تمام الجملة من معمولات الفعل ، مما لا يمكن إفراده عن الجملة ، وأن يعتدّ كلاما على حدته.
وهاهنا شيء آخر دقيق ، وهو أنك إذا نظرت إلى قوله : «فكان مسير عيسهم ذميلا» ، وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف عليه ، ولكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطا آخره بأوّله. ألا ترى أن الغرض من هذا الكلام أن يجعل تولّيهم بغتة ، وعلى الوجه الذي توهّم من أجله أن البين تهيّبه ، مستدعيا بكاءه ، وموجبا أن ينهمل دمعه ، فلم يعنه أن يذكر ذملان العيس إلا ليذكر هملان الدمع ، وأن يوفّق بينهما.
وكذلك الحكم في الأوّل ، فنحن وإن كنا قلنا إن العطف على «تولوا بغتة» ، فإنّا لا نعني أن العطف عليه وحده مقطوعا عما بعده ، بل العطف عليه مضموما إليه ما بعده إلى آخره ، وإنما أردنا بقولنا «إن العطف عليه» ، أن نعلمك أن الأصل
__________________
(١) البيتان في ديوانه (١ / ١٨٣) من قصيدة في مدح أبي الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني ، وقبلهما :
بقائي شاء ليس هم ارتحالا |
|
وحسن الصبر زموا لا الجمالا |
تولوا : أدبروا. البغتة : الفجأة. تهيبني : هابني. اغتيال : أخذ المرء من حيث لا يدري. العيس : الإبل. انهمالا : انسكابا. الذميل : ضرب من السير سريع ..