ولم يكن هذا الاشتباه وهذا الغلط إلّا لأنه ليس في جملة الخفايا والمشكلات أغرب مذهبا في الغموض ، ولا أعجب شأنا ، من هذه التي نحن بصددها ، ولا أكثر تفلّتا من الفهم وانسلالا منها ، وأنّ الذي قاله العلماء والبلغاء في صفتها والإخبار عنها ، رموز لا يفهمهما إلا من هو في مثل حالهم من لطف الطبع ، ومن هو مهيّأ لفهم تلك الإشارات ، حتى كأنّ تلك الطباع اللطيفة وتلك القرائح والأذهان ، قد تواضعت فيما بينها على ما سبيله سبيل الترجمة يتواطأ عليها قوم فلا تعدوهم ، ولا يعرفها من ليس منهم.
وليت شعري من أين لمن لم يتعب في هذا الشأن ، ولم يمارسه ، ولم يوفّر عنايته عليه ، أن ينظر إلى قول الجاحظ وهو يذكر إعجاز القرآن :
«ولو أنّ رجلا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة قصيرة أو طويلة ، لتبيّن له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها ، أنه عاجز عن مثلها ، ولو تحدّي بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها» (١).
وقوله وهو يذكر رواة الأخبار :
«ورأيت عامّتهم ، فقد طالت مشاهدتي لهم ، وهم لا يقفون على الألفاظ المتخيّرة ، والمعاني المنتخبة ، والمخارج السهلة ، والدّيباجة الكريمة ، وعلى الطبع المتمكّن ، وعلى السّبك الجيد ، وعلى كل كلام له ماء ورونق» (٢).
وقوله في بيت الحطيئة : [من الطويل]
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره |
|
تجد خير نار عندها خير موقد |
«وما كان ينبغي أن يمدح بهذا البيت إلّا من هو خير أهل الأرض ، على أني لم أعجب بمعناه أكثر من عجبي بلفظه ، وطبعه ، ونحته ، وسبكه ، فيفهم منه شيئا أو يقف للطابع والنّظام والنّحت والسّبك والمخارج السّهلة ، على معنى ، أو يحلى منه بشيء ، وكيف بأن يعرفه؟ ولربما خفي على كثير من أهله».
واعلم أنّ الداء الدّويّ (٣) ، والذي أعيى أمره في هذا الباب ، غلط من قدّم الشعر بمعناه ، وأقل الاحتفال باللفظ ، وجعل لا يعطيه من المزيّة إن هو أعطى إلّا ما فضل عن المعنى يقول : «ما في اللفظ لو لا المعنى؟ وهل الكلام إلا بمعناه؟». فأنت تراه لا
__________________
(١) وهو في كتابه «حجج النبوة» (رسائل الجاحظ ٣ / ٢٢٩).
(٢) المقصود عامة رواة الأخبار والعبارة من البيان والتبيين (٤ / ٤٢).
(٣) الداء الدوي : أي اللازم مكانه «القاموس : دوى» (١٦٥٦).