يقدّم شعرا حتى يكون قد أودع حكمة وأدبا ، واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر ، فإن مال إلى اللفظ شيئا ، ورأى أن ينحله بعض الفضيلة ، لم يعرف غير «الاستعارة» ، ثم لا ينظر في حال تلك «الاستعارة» أحسنت بمجرّد كونها استعارة ، أم من أجل فرق ووجه أم للأمرين؟ لا يحفل بهذا وشبهه ، قد قنع بظواهر الأمور ، وبالجمل ، بأن يكون كمن يجلب المتاع للبيع ، وإنّما همّه أن يروّج عنه. يرى أنّه إذا تكلم في الأخذ والسرقة ، وأحسن أن يقول : «أخذه من فلان ، وألمّ فيه بقول كذا» ، فقد استكمل الفضل ، وبلغ أقصى ما يراد.
واعلم أنّا وإن كنا إذا اتّبعنا العرف والعادة وما يهجس في الضمير وما عليه العامّة ، أرانا ذلك أن الصّواب معهم ، وأنّ التعويل ينبغي أن يكون على المعنى ، وأنه الذي لا يسوغ القول بخلافه ، فإنّ الأمر بالضدّ إذا جئنا إلى الحقائق ، وإلى ما عليه المحصّلون ، لأنّا لا نرى متقدّما في علم البلاغة ، مبرّزا في شأوها ، إلّا وهو ينكر هذا الرأي ويعيبه ، ويزري على القائل به ويغضّ منه.
ومن ذلك ما روي عن البحتري. روي أنّ عبيد الله بن عبد الله بن طاهر سأله عن مسلم وأبي نواس : أيّهما أشعر؟ فقال : أبو نواس. فقال : إن أبا العباس ثعلبا لا يوافقك على هذا. فقال : ليس هذا من شأن ثعلب وذويه ، من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله ، إنّما يعلم ذلك من دفع في مسلك طريق الشعر إلى مضايقه وانتهى إلى ضروراته.
وعن بعضهم أنه قال : رآني البحتري ومعي دفتر شعر فقال : ما هذا؟ فقلت : شعر الشّنفرى. فقال : وإلى أين تمضي؟ فقلت : إلى أبي العباس أقرؤه عليه. فقال : قد رأيت أبا عبّاسكم هذا منذ أيام عند ابن ثوابة فما رأيته ناقدا للشعر ولا مميّزا للألفاظ ، ورأيته يستجيد شيئا وينشده ، وما هو بأفضل الشعر. فقلت له : أمّا نقده وتمييزه فهذه صناعة أخرى ، ولكنه أعرف الناس بإعرابه وغريبه ، فما كان ينشد؟ قال قول الحارث بن وعلة : [من الكامل]
قومي هم قتلوا أميم ، أخي |
|
فإذا رميت يصيبني سهمي |
فلئن عفوت لأعفون جللا ، |
|
ولئن سطوت لأوهنن عظمي (١) |
__________________
(١) البيتان للحارث بن وعلة الجرمي ، وهما في مفتاح العلوم (٢٨١) ، والإيضاح (٥١) ، والدرر (٥ / ١٢٣) ، وسمط اللآلي (٣٠٥ ، ٥٨٤) ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (٣٠٤) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٦٣) ، وشرح الحماسة للتبريزي (١ / ١٠٧) ، والمؤتلف والمختلف للآمدي (١٩٧). وأميم : منادى مرخم أميمة ، وكانت تحضه على الأخذ بثأر أخيه ممن قتله من قومه.