تفسير ذلك : أنك إذا قلت : «أتاني القوم مجتمعين» ، فقال قائل : «لم يأتك القوم مجتمعين» ، كان نفيه ذلك متوجّها إلى الاجتماع الذي هو تقييد في الإتيان دون الإتيان نفسه ، حتّى إنه إن أراد أن ينفي الإتيان من أصله ، كان من سبيله أن يقول : «إنهم لم يأتوك أصلا ، فما معنى قولك : مجتمعين». هذا مما لا يشكّ فيه عاقل.
وإذا كان هذا حكم النفي إذا دخل على كلام فيه تقييد ، فإن التأكيد ضرب من التقييد. فمتى نفيت كلاما فيه تأكيد ، فإن نفيك ذلك يتوجّه إلى التأكيد خصوصا ويقع له. فإذا قلت : «لم أر القوم كلهم» أو «لم يأتني القوم كلهم» أو «لم يأتني كلّ القوم» أو «لم أر كلّ القوم» ، كنت عمدت نفيك إلى معنى «كل» خاصة ، وكان حكمه حكم «مجتمعين» في قولك : «لم يأتني القوم مجتمعين». وإذا كان النفي يقع «لكلّ» خصوصا فواجب إذا قلت : «لم يأتني القوم كلهم» أو «لم يأتني كل القوم» ، أن يكون قد أتاك بعضهم كما يجب إذا قلت : «لم يأتني القوم مجتمعين» ، أن يكونوا قد أتوك أشتاتا. وكما يستحيل أن تقول : «لم يأتني القوم مجتمعين» ، وأنت تريد أنّهم لم يأتوك أصلا لا مجتمعين ولا منفردين كذلك محال أن تقول : «لم يأتني القوم كلهم» ، وأنت تريد أنهم لم يأتوك أصلا ، فاعرفه.
واعلم أنك إذا نظرت وجدت الإثبات كالنفي فيما ذكرت لك ، ووجدت النفي قد احتذاه فيه وتبعه. وذلك أنك إذا قلت : «جاءني القوم كلهم» ، كان «كلّ» فائدة خبرك هذا ، والذي يتوجّه إليه إثباتك ، بدلالة أن المعنى على أن الشك لم يقع في نفس المجيء أنّه كان من القوم على الجملة ، وإنما وقع في شموله «الكل» ، وذلك الذي عناك أمره من كلامك.
وجملة الأمر أنه ما من كلام كان فيه أمر زائد على مجرّد إثبات المعنى للشيء ، إلّا كان الغرض الخاصّ من الكلام ، والّذي يقصد إليه ويزجّى القول فيه. فإذا قلت : «جاءني زيد راكبا» ، و «ما جاءني زيد راكبا» كنت قد وضعت كلامك لأن تثبت مجيئه راكبا أو تنفي ذلك ، لا لأن تثبت المجيء وتنفيه مطلقا. هذا ما لا سبيل إلى الشكّ فيه.
واعلم أنه يلزم من شكّ في هذا فتوهّم أنه يجوز أن تقول : «لم أر القوم كلهم» ، على معنى أنك لم تر واحدا منهم أن تجري النّهي هذا المجرى فتقول : «لا تضرب القوم كلّهم» ، على معنى لا تضرب واحدا منهم وأن تقول : «لا تضرب