الصورة المبهجة والمنظر الرّائق والحسن الباهر ، إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل ، ولا تصير النفس به إلى حاصل. والسبب في أن كان ذلك كذلك ، هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلا لا سبيل إليه مع التأخير.
بيانه ، أنّا وإن كنّا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجنّ شركاء وعبدوهم مع الله تعالى ، وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم ، فإن تقديم «الشركاء» يفيد هذا المعنى ويفيد معه معنى آخر ، وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك ، لا من الجن ولا غير الجن.
وإذا أخّر فقيل : «جعلوا الجنّ شركاء لله» ، لم يفد ذلك ، ولم يكن فيه شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى ، فأمّا إنكار أن يعبد مع الله غيره ، وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن ، فلا يكون في اللفظ مع تأخير «الشركاء» دليل عليه. وذلك أن التقدير يكون مع التقديم : أن «شركاء» مفعول أوّل لجعل ، و «لله» في موضع المفعول الثاني ، ويكون «الجن» على كلام ثان ، وعلى تقدير أنه كأنه قيل : «فمن جعلوا شركاء لله تعالى؟» ، فقيل : «الجن». وإذا كان التقدير في «شركاء» أنّه مفعول أوّل ، و «لله» في موضع المفعول الثاني ، وقع الإنكار على كون شركاء لله تعالى على الإطلاق ، من غير اختصاص شيء دون شيء. وحصل من ذلك أنّ اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار دخول اتّخاذه من الجنّ ، لأنّ الصفة إذا ذكرت مجرّدة غير مجراة على شيء ، كان الذي تعلّق بها من النفي عامّا في كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة.
فإذا قلت : «ما في الدار كريم» ، كنت نفيت الكينونة في الدار عن كلّ من يكون الكرم صفة له. وحكم الإنكار أبدا حكم النفي. وإذا أخّر فقيل : «وجعلوا الجنّ شركاء لله» ، كان «الجن» مفعولا أوّل ، و «الشركاء» مفعولا ثانيا. وإذا كان كذلك ، كان «الشركاء» مخصوصا غير مطلق ، من حيث كان محالا أن يجرى خبرا على الجن ، ثم يكون عامّا فيهم وفي غيرهم. وإذا كان كذلك ، احتمل أن يكون القصد بالإنكار إلى «الجن» خصوصا ، أن يكونوا «شركاء» دون غيرهم ، جلّ الله تعالى عن أن يكون له شريك وشبيه بحال.
فانظر الآن إلى شرف ما حصل من المعنى بأن قدّم «الشركاء» ، واعتبره فإنه ينبّهك لكثير من الأمور ، ويدلّك على عظم شأن «النظم» ، وتعلم به كيف يكون الإيجاز به وما صورته؟ وكيف يزاد في المعنى من غير أن يزاد في اللفظ ، إذ قد ترى أن ليس إلا