«كلّ» كما ترى غير معمل فيه الفعل ، ومرفوع ، إمّا بالابتداء ، وإمّا بأنه اسم «ما» ، ثم إنّ المعنى مع ذلك على ما يكون عليه إذا أعملت فيه الفعل فقلت : «ما يدرك المرء كلّ ما يتمناه» ، «ما يدعو كلّ رأي الفتى إلى رشد» ، وذلك أن التأثير لوقوعه في حيّز النفي ، وذلك حاصل في الحالين. ولو قدمت «كلّا» في هذا فقلت : «كلّ ما يتمنى المرء لا يدركه» و «كل رأي الفتى لا يدعو إلى رشد» لتغير المعنى ، ولصار بمنزلة أن يقول : «إنّ المرء لا يدرك شيئا مما يتمناه» ، و «لا يكون في رأي الفتى ما يدعو إلى رشد بوجه من الوجوه».
واعلم أنك إذا أدخلت «كلّا» في حيّز النفي ، وذلك بأن تقدم النّفي عليه لفظا أو تقديرا ، فالمعنى على نفي الشمول دون نفي الفعل والوصف نفسه. وإذا أخرجت «كلّا» من حيّز النفي ولم تدخله فيه ، لا لفظا ولا تقديرا ، كان المعنى على أنك تتبّعت الجملة ، فنفيت الفعل والوصف عنها واحدا واحدا. والعلة في أن كان ذلك كذلك ، أنك إذا بدأت «بكل» كنت قد بنيت النّفي عليه ، وسلّطت الكلّية على النفي وأعملتها فيه ، وإعمال معنى الكلية في النّفي يقتضي أن لا يشذّ شيء عن النّفي ، فاعرفه.
واعلم أن من شأن الوجوه والفروق أن لا يزال تحدث بسببها وعلى حسب الأغراض والمعاني التي تقع فيها ، دقائق وخفايا لا إلى حدّ ونهاية وأنها خفايا تكتم أنفسها جهدها حتى لا يتنبّه لأكثرها ، ولا يعلم أنها هي ، وحتى لا تزال ترى العالم يعرض له السّهو فيه ، وحتى إنه ليقصد إلى الصواب فيقع في أثناء كلامه ما يوهم الخطأ ، كلّ ذلك لشدة الخفاء وفرط الغموض.
فصل
واعلم أنه إذا كان بيّنا في الشيء أنه لا يحتمل إلّا الوجه الذي هو عليه حتى لا يشكل ، وحتى لا يحتاج في العلم بأن ذلك حقّه وأنه الصواب ، إلى فكر وروية فلا مزيّة. وإنّما تكون المزيّة ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجها آخر ، ثم رأيت النّفس تنبو عن ذلك الوجه الآخر ، ورأيت للذي جاء عليه حسنا وقبولا تعدمهما إذا أنت تركته إلى الثاني.
مثال ذلك قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠] ، ليس بخاف أن لتقديم «الشركاء» حسنا وروعة ومأخذا من القلوب ، أنت لا تجد شيئا منه إن أنت أخّرت فقلت : «وجعلوا الجنّ شركاء لله» ، وأنك ترى حالك حال من نقل عن