هذا المجاز الحكميّ بسهولة ، بل تجدك في كثير من الأمر ، وأنت تحتاج إلى أن تهيّئ الشيء وتصلحه لذلك ، بشيء تتوخّاه في النظم. وإن أردت مثالا في ذلك فانظر إلى قوله : [من الطويل]
تناس طلاب العامريّة إذ نأت |
|
بأسجح (١) مرقال (٢) الضّحى قلق الضّفر (٣) |
إذا ما أحسّته الأفاعي تحيّزت |
|
شواة (٤) الأفاعي من مثلّمة سمر (٥) |
تجوب له الظّلماء عين كأنّها |
|
زجاجة شرب (٦) غير ملأى ولا صفر |
يصف جملا ، ويريد أنّه يهتدي بنور عينه في الظلماء ، ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها ، ولولاها لكانت الظلماء كالسّد والحاجز الذي لا يجد شيئا يفرجه به ، ويجعل لنفسه فيه سبيلا. فأنت الآن تعلم أنه لو لا أن قال : «تجوب له» : فعلّق «له» تجوب ، ولما صلحت «العين» لأن يسند «تجوب» إليها ، ولكان لا تتبيّن جهة التجوّز في جعل «تجوب» فعلا للعين كما ينبغي. وكذلك تعلم أنه لو قال مثلا : «تجوب له الظلماء عينه» ، لم يكن له هذا الموقع ، ولاضطرب عليه معناه ، وانقطع السّلك من حيث كان يعييه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به الآن. فتأمل هذا واعتبره. فهذه التهيئة وهذا الاستعداد في هذا المجاز الحكمي ، نظير أنك تراك في الاستعارة التي هي مجاز في نفس الكلمة وأنت تحتاج في الأمر الأكثر إلى أن تمهّد لها وتقدّم أو تؤخّر ما يعلم به أنك مستعير ومشبّه ، ويفتح طريق المجاز إلى الكلمة.
ألا ترى إلى قوله : [من الطويل]
وصاعقة من نصله ينكفي بها |
|
على أرؤس الأقران خمس سحائب (٧) |
__________________
(١) الأسجح : ليّن الخد والحسن المعتدل. اللسان / سجح / (٢ / ٤٧٥).
(٢) المرقال : تقول ناقة مرقال : مسرعة. اه القاموس / رقل / (١٣٠٢).
(٣) الضفر : ما يشربه البعير من مضفور (الحبل). اه القاموس / ضفر / (٥٥١).
(٤) الشواة : قحف الرأس. اه القاموس / شوى / (١٦٧٨).
(٥) المثلمة السمر : هي الأخفاف المقطعة من كثرة المشي.
(٦) شرب : القوم الشاربون.
(٧) البيت للبحتري في ديوانه (١ / ١٧٩) ، والإيضاح (٢٦١) ، والمفتاح (٤٨٤) ، وأورده الطيبي في التبيان (١ / ٣٠٠) ، وعزاه للبحتري ، وفي شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١١٧) ، والعلوي في الطراز (١ / ٢٣١) ، ورواية الديوان :
وصاعقة من كفه ينكفي بها |
|
على أرؤس الأعداء خمسة سحائب |
ويريد بخمس سحائب : الأنامل.