والفرق بينهما أنك إذا قلت : «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» ، فقدّمت المنصوب ، كان الغرض بيان الضّارب من هو ، والإخبار بأنه عمرو خاصّة دون غيره وإذا قلت : «ما ضرب عمرو إلّا زيدا» ، فقدّمت المرفوع ، كان الغرض بيان المضروب من هو ، والإخبار بأنه «زيد» خاصة دون غيره.
وإذا قد عرفت ذلك فاعتبر به الآية ، وإذا اعتبرتها به علمت أن تقديم اسم الله تعالى إنما كان لأجل أنّ الغرض أن يبيّن الخاشون من هم ، ويخبر بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم. ولو أخّر ذكر اسم الله وقدّم «العلماء» فقيل : «إنّما يخشى العلماء الله» ، لصار المعنى على ضدّ ما هو عليه الآن ، ولصار الغرض بيان المخشيّ من هو ، والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره ، ولم يجب حينئذ أن تكون الخشية من الله تعالى مقصورة على العلماء ، وأن يكونوا مخصوصين بها كما هو الغرض في الآية ، بل كان يكون المعنى أنّ غير العلماء يخشون الله تعالى أيضا إلا أنّهم مع خشيتهم الله تعالى يخشون معه غيره ، والعلماء لا يخشون غير الله تعالى.
وهذا المعنى وإن كان قد جاء في التنزيل في غير هذه الآية كقوله تعالى : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) [الأحزاب : ٣٩] ، فليس هو الغرض في الآية ، ولا اللّفظ بمحتمل له البتة. ومن أجاز حملها عليه ، كان قد أبطل فائدة التقديم ، وسوّى بين قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)) وبين أن يقال : «إنما يخشى العلماء الله» ، وإذا سوّى بينهما ، لزمه أن يسوّي بين قولنا : «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» وبين : «ما ضرب عمرو إلّا زيدا» ، وذلك ما لا شبهة في امتناعه.
فهذه هي المسألة ، وإذ قد عرفتها فالأمر فيها بيّن : أن الكلام «بما» و «إلا» قد يكون في معنى الكلام «بإنما» ، ألا ترى إلى وضوح الصورة في قولك : «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» و «ما ضرب عمرو إلّا زيدا» ، أنه في الأول لبيان من الضارب ، وفي الثاني لبيان من المضروب ، وإن كان تكلفا أن تحمله على نفي الشركة ، فتريد «بما ضرب زيدا إلّا عمرو» أنه لم يضربه اثنان ، و «بما ضرب عمرو إلّا زيدا» ، أنه لم يضرب اثنين.
ثم اعلم أن السبب في أن لم يكن تقديم المفعول في هذا كتأخيره ، ولم يكن «ما ضرب زيدا إلّا عمرو» و «ما ضرب عمرو إلا زيدا» ، سواء في المعنى أن الاختصاص يقع في واحد من الفاعل والمفعول ، ولا يقع فيهما جميعا. ثم إنه يقع في الذي يكون بعد «إلا» منهما دون الذي قبلها ، لاستحالة أن يحدث معنى الحرف