من الأغراض ولم تجيء إلى فعل أو اسم ففكرت فيه فردا ، ومن غير أن كان لك قصد أن تجعله خبرا أو غير خبر. فاعرف ذلك.
وإن أردت مثالا فخذ بيت بشّار : [من الطويل]
كأنّ مثال النّقع فوق رءوسنا |
|
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (١) |
وانظر هل يتصوّر أن يكون بشار قد أخطر معاني هذه الكلم بباله أفردا عارية من معاني النحو التي تراها فيها وأن يكون قد وقع «كأنّ» في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التّشبيه منه على شيء وأن يكون فكّر في «مثار النقع» ، من غير أن يكون أراد إضافة الأول إلى الثاني وفكّر في «فوق رءوسنا» ، من غير أن يكون قد أراد أن يضيف «فوق» إلى «الرءوس» وفي «الأسياف» من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على «مثار» وفي «الواو» من دون أن يكون أراد العطف بها وأن يكون كذلك فكّر في «الليل» ، من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرا «لكأنّ» وفي «تهاوى كواكبه» ، من دون أن يكون أراد أن يجعل «تهاوى» فعلا للكواكب ، ثم يجعل الجملة صفة لليل ، ليتمّ الذي أراد من التشبيه؟ أم لم يخطر هذه الأشياء بباله إلّا مرادا منها هذه الأحكام والمعاني التي تراها فيها؟
وليت شعري ، كيف يتصوّر وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى؟ ومعنى «القصد إلى معاني الكلم» ، أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه. ومعلوم أنك ، أيّها المتكلم ، لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلّمه بها ، فلا تقول : «خرج زيد» ، لتعلمه معنى «خرج» في اللغة ، ومعنى «زيد». كيف؟ ومحال أن تكلّمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف. ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم ، ولا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل ، كلاما. وكنت لو قلت «خرج» ، ولم تأت باسم ، ولا قدّرت فيه ضمير الشيء ، أو قلت : «زيد» ، ولم تأت بفعل ولا اسم آخر ولم تضمره في نفسك ، كان ذلك وصوتا تصوّته سواء ، فاعرفه.
واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضّة فيذيب
__________________
(١) البيت في ديوانه ، وذكره الطيبي في التبيان (١ / ٢٧٨) وعزاه لبشار ، وأورده أيضا في شرحه على مشكاة المصابيح (١ / ١٠٦) ، والقزويني في الإيضاح ، والسكاكي في المفتاح (٤٤٤ ، ٤٦١) ، وأورده الرازي في نهاية الإيجاز (١٥٥) ، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (١٨٠) ، والعلوي في الطراز.